الحرب التي تنتظر أوروبا؟

تسببت عوامل عدة في تصريحات أوروبية جادة ومتكررة تطالب بضرورة التجهيز لزيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي خلال الفترة الحالية، وهو ما بدأ مع غياب الأفق بشأن نهاية الحرب الروسية على أوكرانيا، خاصة بعدما بدا لأوروبا أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتجه إلى معاداة أوروبا، وهو ما اتضح خلال اللقاء الذي جرى بين الرئيس الأمريكي ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الشهر الماضي، حين وبخ ترامب ضيفه في مكتبه البيضاوي بسبب تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، علاوة على ما رأته دول أوروبا من تراجع أمريكي عن دعم القارة العجوز مؤخرًا، مع تهديداته ومطالباته المتكررة بضرورة أن ترفع دور أوروبا من حجم إنفاقها الدفاعي في حلف شمال الأطلسي “الناتو” إلى مستوى قياسي.
وعزز ذلك ما كشفته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عن وجود خطة لتعزيز الدفاع الأوروبي بقيمة 800 مليار يورو بما يعادل 842 مليار دولار، بالإضافة إلى اتخاذ تدابير وإجراءات استثنائية أخرى لتعزيز تلك الخطة التي جاءت على النحو التالي:
- تعليق قواعد الميزانية الصارمة للسماح للدول الأعضاء بزيادة الإنفاق الدفاعي
- إنشاء “أداة” جديدة لتوفير قروض بقيمة 150 مليار يورو للدول الأعضاء للاستثمار في الدفاع
- استخدام ميزانية الاتحاد الأوروبي الحالية لتوجيه المزيد من الأموال نحو الاستثمارات المتعلقة بالدفاع
- إشراك بنك الاستثمار الأوروبي التابع للكتلة في رفع القيود المفروضة على الإقراض لشركات الدفاع
- إنشاء اتحاد للادخار والاستثمار لمساعدة الشركات على الوصول إلى رأس المال
قرارات وإجراءات إستثنائية
خلال الأيام القليلة الماضية خرجت بعض التصريحات التي تنم عن البدء في إجراءات أوروبية إستثنائية جاءت كالتالي:
- تخزين كميات كبير من الطعام: إذ دعت المفوضية الأوروبية مواطني دول التكتل بضرورة تخزين كميات من الطعام والإمدادات الأساسية لمنازل المواطنين، والتي تكفيهم لمدة لا تقل عن 72 ساعة تحسبا لأي أزمة طارئة، إذ من المعتاد أن يتم إطلاق تلك الدعوات قبل البدء في حالة حرب غير معلوم أفقها، وهو ما يشير إلى أن دول التكتل تسير في اتجاه الصدام العسكري مع قوة ما، وهو ما يجبرها على ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لتوفير احتياجات مواطنيها في وقت الأزمات.
- دروس تعليمية: دعت المفوضية الأوروبية كذلك إلى إدراج دروس حول فكرة “الاستعداد للحرب والتعامل معها” ضمن المناهج الدراسية في مراحل التعليم الأساسية والمتوسطة، والعليا.
- مهارات مكافحة التضليل: وهي استراتيجية لجأت إليها المفوضية الأوروبية لتدريب طلاب المدارس والجامعات لمكافحة ما اسمته “التضليل والتلاعب بالمعلومات” التي تنشر عبر وسائل الإعلام المختلفة سواء المسموعة منها أو المقروءة والمرئية في أوقات الأزمات والحروب.
- قواعد جديدة لضبط الهدر: في فبراير الماضي اتفق ممثلو دول الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي على قواعد جديدة للحد من هدر الغذاء والمنسوجات، بما يوفر نسب كبيرة من تلك الأشياء التي تعتبرها أوروبا أشياء إستراتيجية خلال الأزمات. وعلى الرغم من أن دول أوروبا أعلنت أن تلك الضوابط تأتي في إطار رغبتها في تقليل النفايات الناتجة عن تجارة التجزئة والمطاعم وخدمات الأغذية والأسر بنسبة 30%. للحد من تلوث البيئة، إلا أن الإجراء جاء في إطار سلسلة من الإجراءات التحضيرية لاتخاذ وضع أكثر صرامة، تحسبًا للأزمات المتوقع أن تواجهها القارة خلال الفترة المقبلة.
دوافع القرارات الأوروبية
بالتأكيد إن لتلك القرارات دوافعها وتداعياتها على مستقبل أوروبا خلال الفترة المقبلة، إلا أن السياسات الأمريكية تجاه دول القارة وبالتحديد ما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية هو ما دعا دول التكتل لاتخاذ إجراءات استثنائية من شأنها أن تظهر للعالم أن أوروبا ستدخل في حالة حرب مع قوى عالمية وإقليمية استوجب أن تتحضر أوروبا لها، وهو ما أوضحه مسؤولون كبار من لوكسمبورغ وإسبانيا وهولندا والسويد، بالإضافة إلى خبراء أمنيون، حين شددوا على الحاجة الملحة لتعزيز التعاون الدفاعي بين دول التكتل والاعتماد على الذات، استنادًا إلى ما يعرف باسم “الاستقلال الاستراتيجي” لدول أوروبا عن الولايات المتحدة الأمريكية في ظل التهديدات التي يتعرض لها دول أوروبا من واشنطن من وقت لأخر.
يضاف إلى ذلك أن تهديدات ترامب المتكررة بشأن تقليص الولايات المتحدة الأمريكية من التزاماتها العسكرية الأمريكية في أوروبا، ومطالبته الأوروبيين دائمًا بتحمل المزيد من تكاليف الدفاع ورفع مساهمات أوروبا في حلف الناتو دفعت الدول الأوروبية إلى زيادة ميزانيات دفاعها بشكل مستقل، تحسبًا لانسحاب الولايات المتحدة بشكل رسمي من حلف شمال الأطلسي “الناتو” وترك أوروبا في مواجهة مستمرة مع روسيا أو أي قوة أخرى قد تهدد مستقبل أوروبا، في ظل الأزمات الاقتصادية التي منيت بها أوروبا جراء الحرب الروسية على أوكرانيا، وهو ما تجلى في تصريحات لوزير الدفاع الهولندي روبن بريكلمانز التي دعا فيها أوروبا إلى تحمل مسؤولية أكبر عن أمنها، واقترح أن تقوم الدول الراغبة في التحرك بذلك حتى بدون إجماع كامل من الاتحاد الأوروبي.
ويبدو أن دول أوروبا رغبت من قراراتها تلك أن تكون مستقلة عن التحولات السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعدما رفض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تأييد وقف إطلاق نار كامل في أوكرانيا لمدة 30 يومًا بناءً على خطة أمريكية، وهو ما دفع أوروبا إلى التجهيز لاستمرار الحرب بدون وجود أمريكي في الصورة، خاصة بعدما أوقفت الولايات المتحدة شحن دفعات جديدة من الأسلحة إلى أوكرانيا.
تداعيات القرارات الأوروبية
إن من شأن ما أعلنته المفوضية الأوروبية من إجراءات استثنائية تتعلق بتخزين الطعام والمؤن الاستراتيجية أن تتسبب في حالة من الهلع لمواطني أوروبا، الذين تحملوا تكاليف كبيرة لاستمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، إذ لجأت دول أوروبا إلى اتخاذ تلك الإجراءات بدون التمهيد لها في مراحل سابقة، وهو ما يشير إلى احتمالية تعرض أوروبا لهزة إجتماعية تتعلق برفض مجتمعي لما ستؤول إليه الأمور في أوروبا، خاصة وأن الخطة الأوروبية قد تجبر حكومات دول التكتل على زيادة الضرائب على المواطنين لمستويات قياسية.
يضاف إلى ذلك أنه مع تحول الأولويات نحو الدفاع والأمن، أعلنت عدة دول أوروبية عن تخفيضات في ميزانياتها للمساعدات الأوروبية الخارجية، سواء المتعلقة ببرامج لها صلات بمنظمات عالمية أو بدعم مالي لدول نامية، وهو ما يمكن أن يُعرض برامج منظمة الصحة العالمية مثلًا للخطر، وسحب تمويل الكثير من المنظمات الأخرى في عدة دول، خاصة وأن العديد من دول الاتحاد الأوروبي، بما فيها فرنسا وإيطاليا، تواجه أوضاعًا ماليةً حرجة، ولا تملك القدرة المالية الكافية لزيادة الاقتراض بشكل كبير.
قد يخلق ذلك الوضع صراعًا كبيرًا مع واشنطن التي لا ترغب لأوروبا أن تكون أقوى منها، في ظل تصريحات وتهديدات أمريكية بضم كندا وجرينلاند إلى الولايات المتحدة الأمريكية، علاوة على سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على سوق السلاح العالمي كأكبر دولة منتجة للسلاح في العالم، علاوة على هيمنة الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا العسكرية.
قد يخلق الوضع الجديد صراعًا داخليًا بين دول أوروبا في ظل مطالبات فرنسية من الرئيس إيمانويل ماكرون دول أوروبا بضرورة تبديل برامج استيراد الطائرات الأمريكية من طراز إف 16 أو إف 35 بطائرات الرافال الفرنسية المتطورة. واستغل ماكرون مقابلاته الصحفية ليؤكد لزملائه القادة الأوروبيين أنه سيقود حملة لفرض مبدأ “أوروبا أولاً” في المشتريات، خاصة مع ضعف قدرات دول أوروبية على إنتاج أنواع معينة من الأسلحة والقذائف، خاصة مع فشل أوروبا في توفير قذائف المدفعية الأساسية الكافية اللازمة على جبهات القتال في أوكرانيا، إذ اعلن الرئيس التشيكي بيتر بافل أنه اضطر إلى تنظيم حملة شراء عالمية لتوفير القذائف التي لا تستطيع مصانع أوروبا إنتاجها.
خاتمة
تدرك دول أوروبا مخاطر استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، كما تدرك جيدًا أن رفع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يديه عن دعم اوروبا في حربها ضد التمدد الروسي في شرق أوروبا، ورفضه الامتثال لهدنة مبدئية لمدة شهر تمهيدًا لمفاوضات جادة لوقف حربه على أوكرانيا أن دول التكتل ستدخل في دوامة استمرار الصراع العسكري المسلح في مناطق شرق القارة، وهو ما يضع حدودها الشرقية في وضع حرج ويستلزم ذلك انتشارًا عسكريًا مكثفًا في تلك المنطقة، بالتزامن مع رفض الولايات المتحدة الأمريكية دعم أوروبا إلا باستنزافها ماليا من خلال إجبار دول أوروبا على زيادة إنفاقها العسكري بمعدل 5% من ناتجها الإجمالي، وهو ما ترفضه دول أوروبا وتصر على زيادة الإنفاق بنسب أقل من ذلك.
تعيش أوروبا بالفعل في حالة حرب في ظل استمرار تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، على الرغم من عدم إدراج أوكرانيا ضمن إطار حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وهو ما يجعل دول أوروبا في حالة تحفز دائم ضد روسيا، مع انسحاب واشنطن من دعمها لأوروبا حليفتها التقليدية في ظل صعود الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب لسدة الحكم، وهو ما استوجب على دول أوروبا أن تفكر في مستقبلها بشكل استثنائي يتمثل في زيادة الإنفاق العسكري لتأمين دول القارة ضد أي مستجدات قد تهدد أمنها القومي أكثر من ذلك. إذ دقت دول البلطيق، التي تشترك في حدود طويلة مع روسيا، ناقوس الخطر لأوروبا لسد الفجوة التي خلفتها الولايات المتحدة.