المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / اختلاف سياسات اليمين بين المعارضة والسلطة

اختلاف سياسات اليمين بين المعارضة والسلطة

اختلاف سياسات اليمين بين المعارضة والسلطة

 

أسهم خطاب أحزاب اليمين المتطرف إزاء قضايا بعينها في رد فعل شعبي إيجابي مكن أحزاب اليمين من الصعود والنجاح في الانتخابات التشريعية على حساب نظيرتها القومية واليسارية، لكن بعض تلك الأحزاب لجأت إلى التخفيف من حدة شعاراتها نظرًا لفداحة المسؤولية المتعلقة بالقضايا التي صعدت على أكتافها كقضايا اللجوء والاقتصاد، كما تنظر أحزاب اليمين بعين الاعتبار إلى قضية المشاركة في ائتلافات حاكمة في دولها، وهو ما دفعها للتخفيف من حدة خطابها الشعبوي في أحيانٍ كثيرة، بعد رفض بقية الأحزاب الدخول في ائتلافات مع أحزاب اليمين المتطرف نتيجة تصريحات رجالها الحادة في قضايا عدة.

النمسا.. مستشار الشعب يواجه الرئيس

قد يلجأ حزب الحرية اليميني في النمسا إلى تهدئة خطابه المتشدد في ظل توتر الأوضاع السياسية الداخلية في البلاد، بعد صعود نجم الحزب اليميني، صاحب التوجه المتشدد من قضايا اللاجئين والإسلاموفوبيا، ورفض مساندة أوكرانيا في حربها ضد روسيا من جانب آخر، وهي كلها أمور تختلف مع ضوابط وعقيدة دول الاتحاد الأوروبي بشكل عام، وقد يستند حزب الحرية في تهدئة خطابه المتشدد على ضوابط عدة أبرزها:

  • رفض التحالف مع الحزب اليميني: إذ تعد الحالة النمساوية من أعقد الحالات في أوروبا على الإطلاق، إذ يحتاج حزب الحرية اليميني المتطرف إلى تهدئة خطابه الشعبوي – رغم نجاحه بسبب هذا الخطاب – من أجل الوصول إلى السلطة والمشاركة في الحكم، خاصة مع تلكؤ الرئيس النمساوي في الإعلان عن تسمية رئيس الحكومة الجديدة، حتى يتم تشكيل تحالف أو ائتلاف سياسي بين الأحزاب النمساوية ينجم عنها اتفاق على تسمية رئيس الحكومة.
  • رفض الحزب اليميني الدخول في ائتلاف حكومي لا يتزعمه كيكل: إذ يمثل فوز حزب الحرية الذي يتزعمه هربرت كيكل بنسبة 29% لأول مرة، طبقًا للبيانات التي قدمها معهد فورسايت النمساوي نقلًا عن هيئة الإذاعة العامة النمساوية ORF، تدشين مرحلة جديدة في النمسا بعد فترة طويلة ابتعد فيها حزب الحرية عن المشاركة في السلطة، وهو ما دفع كيكل للإعلان عن عدم رغبته هو أيضًا في ائتلافات حزبية لتشكيل الحكومة.
  • تاريخ الحزب السياسي: قد يمثل عائقًا أمام مشاركة الأحزاب الأخرى مع كيكل في ائتلافه الحكومي، نظرًا لما يتمتع به تاريخ حزب الحرية النمساوي من خلفية متشددة، خاصة وأن مؤسسه في فترة الخمسينيات من القرن الماضي كان ضابطًا في قوات الأمن الخاصة النازية “إس إس”، فضلًا عن آراء كيكل – الرئيس الحالي للحزب – المتشددة تجاه اللاجئين والرافضة للتنوع الإنساني هناك سواء خلال فترة عمله في وزارة الداخلية في عام 2017 أو الآن.
  • توتر العلاقة بين كيكل ورئيس النمسا: بسبب تصريحاته المتشددة دائمًا والتي يستخدم فيها كيكل عبارات نازية في أحيانٍ كثيرة توترت العلاقة بينه وبين الرئيس النمساوي السابق فان دير بيلن، وهو الأساس الذي بنى عليه الرئيس النمساوي الحالي موقفه، خاصة وأن كيكل صرح في أكثر من مناسبة برغبته في أن يمسى نفسه “فولكانزلر”، أو “مستشار الشعب”، وهو اللقب الذي سبق أن أطلقه النازيون على هتلر النمساوي الأصل.
  • حياد النمسا: يتخذ كيكل موقفًا مغايرًا لأغلب دول أوروبا، ويتفق مع دولًا أخرى فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية، إذ يدعو كيكل إلى ما يسمى “حياد النمسا” ووقف دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، كما عارض فكرة العقوبات الأوروبية على روسيا من جانب، ومن جانب آخر انتقد الرئيس النمساوي الحالي فان دير بيلن بعد زيارته إلى كييف مؤخرًا ووصف روسيا بأنها “قوة استعمارية”، واعتبر كيكل وقتها إن رئيس النمسا بات يشكل خطرًا على “هوية النمسا الحيادية”.

وإزاء كل تلك القضايا الحساسة التي قد تشكل أزمة داخلية في النمسا بعد صعود حزب “الحرية” اليميني، قد يلجأ الحزب إلى التعاطي مع المستجدات القائمة وهو ما تجلى في تصريحات لزعيم الحزب اليميني كيكل والذي قال إن “النمسا بحاجة إلى إعادة التواصل مع احتياجات ومصالح السكان، ويدنا ممدودة في كل الاتجاهات، وأنا مستعد للحوار مع الجميع”، وهو ما يؤشر على رغبة كيكل في التواصل مع بقية الأحزاب وتهدئة خطابه المخيف سواء للحكومة الجديدة أو للشعب النمساوي أو للاتحاد الأوروبي بشكل عام، خاصة وأن هناك أحزاب يمينية متطرفة في دول أخرى تتسق أجندتها مع أجندة حزب الحرية اليميني النمساوي.

هناك أمر أخر قد يجبر كيكل على التهدئة والذي يتمثل في محاولاته لغض الطرف وإثناء الذاكرة الجمعية النمساوية على التفكير في قصص الفساد التي يتورط فيها حزب الحرية كلما تولى السلطة، ونخص بالذكر هناك قضية الفساد المعروفة باسم “فضيحة إيبيزاغيت” والتي تورط فيها الحزب عام 2019، بعدما تم تسريب لقاء جمع  زعيم الحزب السابق هاينز كريستيان شتراخه، الذي كان نائب المستشار وقتها، ونائبه في الحزب يوهان غونيدوس، مع أليونا ماكاروفا حفيدة رجل أعمال روسي ثري ومؤثر، وتناول اللقاء وقتها التسهيل لجدها الحصول على عقود مع الحكومة النمساوية مقابل مساعدتهما بتغطية إعلامية إيجابية.

ألمانيا.. شولتز يواجه أزمة حقيقية

يتخوف المجتمع الألماني من الانتخابات الفيدرالية الألمانية المقرر أن تعقد في بدايات العام المقبل 2025خاصة بعد نجاح حزب البديل من أجل ألمانيا – وهو محسوب على اليمين المتطرف – في حصد الأصوات التي أهلته ليكون رقمًا مهمًا في المعادلة السياسية لألمانيا، وإزاء ذلك بات يتشكل المشهد السياسي الجديد لألمانيا بناءً على عدة توجهات قد تسفر عن ضرورة التوصل لتهدئة معينة بناءً على ضوابط ومحددات أبرزها:

  • التشابه مع الحالة النمساوية: تتشابه أوضاع الأحزاب السياسية في ألمانيا مع نظيرتها في النمسا، إذ ترفض بقية الأحزاب الناجحة في الانتخابات الألمانية في مشاركة حزب “من أجل ألمانيا” في أي ائتلاف حكومي من شأنه أن يجعل الحزب اليميني المتطرف هو السيد في ألمانيا بسبب تصريحاته ومواقفه المتشددة إزاء عدة قضايا أبرزها قضية اللاجئين والإسلام.
  • قضايا الشرق الألماني: وهي قضايا ليست كفيلة وحدها باعتلاء حزب البديل منصب المستشار الألماني، إذ أعلى حزب البديل خلال دعايته الانتخابية من شعارات مناهضة اللجوء والهجرة ومعاداة الإسلام، في ظل مشاعر الكراهية تجاه اللاجئين في مناطق الشرق بسبب فقر تلك المناطق، وهو ما لعب عليه حزب البديل في انتخاباته في تلك الولايات التي حقق فيها فوزًا كبيرًا.
  • دعم الأحزاب الأخرى: هو أمر مهم بالنسبة لحزب البديل من أجل ألمانيا للمشاركة في الحكومة الائتلافية المقبلة، وبدون تلك المشاركة لن يكون في السلطة، بالرغم من المكاسب التي حققها، في ظل موقف متأزم مع حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي قال إنه لن يفكر في الحكم مع اليمين المتطرف.
  • تشابه المواقف لا يعني التوافق: إذ تتشابه مواقف حزب البديل من أجل ألمانيا مع أحزاب أخرى مثل حزب BSW الذي تتزعمه الزعيمة اليسارية الشعبوية ساهرا فاجنكنخت، والذي بالرغم من تشابه مواقفهما إزاء وقف إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا إلا أنها ترفض المشاركة مع حزب البديل في حكومة ائتلافية واحدة.
  • التحقيقات الأمنية: والتي تجري من وقت لآخر مع قيادات حزب البديل من أجل ألمانيا والذي يعتبر منظمة متطرفة من قبل أجهزة الاستخبارات المحلية في ثلاث ولايات ألمانية، بسبب معاداة قادة الحزب للإسلام، علاوة على مواقف الحزب المتطرفة تجاه اللاجئين.

في النهاية.. يمكن القول إن أحزاب اليمين المتطرف صعدت على أكتاف أزمة تدفق اللاجئين بعد الأحداث الجسام التي شهدتها عدة دول في العالم أبرزها الحرب الروسية الأوكرانية من جانب والحرب في الشرق الأوسط من جانب أخر، إذ أصبحت دول أوروبا مطمع وطموح لكل مهاجر وهو ما خلق أزمة ورغبة داخلية في مواجهة تلك الظاهرة من جانب، وأعلى من خطاب اليمين المتطرف ضد اللجوء من جانب آخر، وهو موقف له ما يبرره في ظل تنامي ظاهرة الجريمة العابرة للقارات، بعد تسجيل حوادث قتل ارتكبها مهاجرون، كان أخرها عندما قُتل ثلاثة أشخاص في مهرجان بالشارع في مدينة سولينجن الواقعة غرب ألمانيا، حيث تم ضبط القاتل وهو سوري الجنسية وعملت السلطات على ترحيله للاشتباه في تنفيذه الهجوم.

وفي النمسا عزز ذلك الموقف من المهاجرين حادث القبض على 9 عراقيين من طالبي اللجوء، بعد ادعاء اغتصابهم لفتاة تبلغ من العمر 28 عامًا طبقًا لما ذكرته الشرطة النمساوية، إذ كانت تلك الأحداث ما دفعت المواطنين للتصويت لأحزاب اليمين المتطرف التي أعلت من نبرة رفض اللجوء والهجرة إلى أراضيها وضرورة الحفاظ على الهوية الأوروبية، لكن مع صعود الأحزاب وجدت نفسها مدينة بضرورة التراجع – بعض الشئ – عن المواقف المتشددة من أجل ضمان البقاء في السلطة والمشاركة في تشكيل الحكومة، وهنا تظهر البراجماتية الأوروبية في أبهى صورها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *