المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / تباين مواقف اليمين الأوروبي.. هولندا وإيطاليا وبولندا أنموذجًا (1-2)

تباين مواقف اليمين الأوروبي.. هولندا وإيطاليا وبولندا أنموذجًا (1-2)

تباين مواقف اليمين الأوروبي.. هولندا وإيطاليا وبولندا أنموذجًا (1-2)

 تباينت مواقف أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا خلال فترة الترشح عنها بعد الفوز، خاصة مع بروز أجندة تخالف أجندة الأحزاب اليسارية والقومية الحاكمة في عدد من دول أوروبا، إذ على الرغم من النبرة الحادة التي تحدث بها مرشحي الانتخابات التشريعية في أوروبا والتي أعلت من شأن أحزاب اليمين المتطرف في تكتل بروكسل، إلا أنه بعد الفوز هدأت نبرة الحدة بشأن عدد من القضايا البارزة التي احتلت مزيدًا من النقاشات خلال فترة الترشح، ما يشير إلى أن تلك الأحزاب إما أنها استغلت تلك القضايا في برامجها الخطابية فقط، وإما أن هناك أصواتًا داخلية كشفت عن ثنائية حادة جعلت من القضايا المطروحة ساحة للصراع بين أقطاب تلك الأحزاب.

وبمتابعة دقيقة لمواقف قادة أحزاب اليمين المتطرف في دول ثلاث هي هولندا وإيطاليا وبولندا، خلال فترة الترشح بنظيرتها بعد الفوز، تبين أن كثيرًا من القضايا تراجع عنها الفائزين في تلك الانتخابات، أو على الأرجح تم إرجاء مناقشتها والبت في مشروعيتها خلال تلك الفترة، وقد جاءت على النحو التالي:

تغير الخطاب السياسي في هولندا

أولًا: في هولندا مثلا كان القيادي اليميني البارز خيرت فيلدرز من أشد المنتقدين للهجرة غير الشرعية من جانب ومن أشد المنتقدين للإسلام وأعلى من مصطلح “الإسلاموفوبيا” كثيرًا في خطاباته، كما دعا في بعض الأحيان خلال تلك الخطابات إلى فرض ضريبة كبيرة على من ترتدي الحجاب في البلاد، واعتبر أن الإسلام ليس دينًا بالمعنى الروحي للكلمة، وأنه برنامج سياسي تتعارض أهدافه مع القيم الأوروبية، لكن بعد فوزه في الانتخابات وخلال محادثات تشكيل ائتلاف حكومي عدل عن تلك الأفكار قليلًا  وأبدى ميلًا للتعاطي مع الإسلام والمسلمين ورفض خلال محادثات الائتلاف الحديث عن الإسلام كدين ولا عن خطته فيما يتعلق بالمساجد والمدارس الإسلامية في البلاد.

وقد يعزى تغير ذلك الموقف لفيلدرز إلى ما كشفت عنه السلطات الهولندية من تحقيقات أجريت مع ما وصفته “إسلاميًا متطرفًا” كان يخطط لاغتيال فيلدرز.

ثانيًا: تحدث حزب فيلدرز كثيرًا عن انتقادات وجهها إلى الاتحاد الأوروبي كتكتل فشل في تحقيق أهدافه ولم يعد قادرًا على الاستمرار في ظل الظروف العالمية الراهنة، وأبدى مرونة كبيرة في مناقشات تعلقت بضرورة العمل على الاستفتاء الذي قد يخرج هولندا من الاتحاد، إلا أن ورقة الائتلاف الجديد بعد فوز حزبه اليميني لم تتضمن فكرة واحدة عن خروج هولندا من الاتحاد الأوروبي، واكتفى بأن تتوجه الحكومة الجديدة بانتقادات لاذعة للتكتل الذي يسعى لضم دول إضافية.

وقد يكون فيلدرز قد اتخذ ذلك الموقف لعدة أوجه أبرزها أنه لم يرى دولًا أوروبية شاركته في رغبته بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وثانيًا أن ذلك يعود إلى غضب داخل حكومة هولندا من كون الاخيرة هي ثالث أكبر مساهم في صافي ميزانية الاتحاد بعد ألمانيا الاتحادية وفرنسا، وهو ما يشير إلى رغبة فيلدرز إما بتخفيض مساهمة هولندا أو مساواة الجميع في ميزانية الاتحاد.

الموقف الإيطالي

ثالثًا: لم يبتعد الموقف الإيطالي كثيرًا عن الموقف في هولندا، خاصة مع صعود جورجيا ميلوني سدة الحكم في إيطاليا عن حزب  “إخوة إيطاليا” والتي سبق أن هاجمت تدفق اللاجئين إلى إيطاليا، إلا أنها عادت إلى الاستناد إلى “البراجماتية” فيما يتعلق بذلك الطرح بعد فوزها في الانتخابات، بعدما كشفت تقديرات عن نقص كبير في الأيدي العاملة الأوروبية نتيجة تراجع معدل الولادة في البلاد، إذا ما قورن بنسبة الوفيات، وهو ما يحد من الخطاب السياسي الثوري لأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا عامة وإيطاليا بشكل خاص.

رابعًا: علا صوت ميلوني في أكثر من مناسبة بانتقادات لاذعة للاتحاد الأوروبي ووصفته بأنه “كيان مترهل”، لكنها فيما بعد ذكرت أن إيطاليا جزء لا يتجزًا و”برأس مرفوع” من هذا الكيان بجانب حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وأن الحلف يحتاج فقط إلى خطة لإعادة العمل بين أعضاءه بشكل منظم. وهو ما يشير إلى أن التصريحات الخطابية الرنانة لميلوني لم تكن هدفها هدم تجمع بروكسل، وأن زعماء أوروبا لا يرغبون إلا في إعلاء سلطة الاتحاد والحفاظ على القيم الأوروبية في ظل تدهور الدور الأوروبي أمام الدور الأمريكي من جانب، وتعرض شرق أوروبا لهجمات روسية منظمة أفقدت قدرة أوروبا على الحفاظ على نفسها كقوة ضاربة.

خامسًا: فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية، فإنه على الرغم من انتقادها للحرب الروسية على أوكرانيا ودعمها لكييف في حربها أمام موسكو، إلا أنها أكدت على ضرورة التواصل مع الرئيس الروسي وإنهاء الحرب عبر التفاوض، وهو ما عكس حالة الاستقطاب الحادة داخل حكومتها الائتلافية التي تضم حزب الرابطة اليمني الذي يتزعمه ماتيو سالفيني وسيلفيو برلسكوني زعيم حزب “فوتسا إيطاليا” واللذان يتمتعان بعلاقات جيدة نوعًا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

الموقف السياسي في بولندا

أولًا: دعمت بولندا أوكرانيا في مواجهة التقدم الروسي الذي فرضته العملية العسكرية لموسكو في فبراير من عام 2022، إذ قدمت الأسلحة اللازمة لأوكرانيا ضمن حزمة مساعدات عسكرية قدمتها دول الاتحاد الأوروبي، إلا أن بولندا عادت بعد ذلك – وبعد صعود اليمين المتطرف بالتحديد – أدراجها عن الاستمرار في دعم كييف عسكريًا، حيث أعلن شبه بولندا أندجي دودا أوكرانيا بأنها كـ “رجل يغرق ويجر رجال الإنقاذ معه إلى الغرق”. وعلى هذا الأساس أوقفت بولندا إرسال شحنات أسلحة إلى أوكرانيا بحجة أنها تسعى خلال الفترة المقبلة لتدعيم جيشها بأسلحة دفاعية متقدمة في ظل توتر الأوضاع في أوروبا الشرقية، وإن كان هذا التغير في الموقف مرهون بأزمة صادرات الحبوب الأوكرانية، كما طالبت أحزاب اليمين المتطرف بعد ذلك بتخفيض الإعانات المالية المقدمة للاجئين الأوكرانيين في بولندا.

ثانيًا: فيما يتعلق بقضية المهاجرين ورفض أغلب دول أوروبا تدفق اللاجئين عبر أراضيها، إلا أن الأزمة تكمن في الإحصائيات التي أفصحت عنها وكالة الإحصاء البولندية، والتي كشفت عن انخفاض عدد سكان بولندا بمعدل 133 ألف نسمة عن العام الماضي، وهو الانخفاض الأكبر بين جميع دول أعضاء الاتحاد الأوروبي، فيما كشفت الإحصائية أنه من حيث النسبة تسجل بولندا ثاني أعلى نسبة انخفاض في عدد السكان بين دول أوروبا بمعدل 36. %، وهو ما قد يغير من موقف بولندا إزاء فكرة مناهضة اللاجئين، خاصة مع مؤشرات تؤكد على أن الاتحاد الأوروبي قد يحتاج في عام 2050 إلى ما لا يقل عن 43,1 مليون عامل من الأجانب، طبقًا لما أكدته دراسة صادرة عن مركز “التنمية العالمية الأميركي”، وبالطبع سيكون لبولندا حصة من تلك النسبة بسبب تدنى نسب المواليد لديها، والتراجع الديموغرافي لديها بناءً على استطلاع وكالة الإحصاء البولندية، حيث كشفت وكالة يوروستات عن تسجيل بولندا عدد سكان بلغ 36.620.970 نسمة مقارنة بالعام الماضي الذي سجل بلغ 36.753.736 نسمة.

في المجمل.. تشير تلك التقديرات والاستطلاعات إلى أن أحزاب اليمين المتطرف جعلت من تلك الأفكار كالحرب الروسية ومناهضة اللاجئين مواقفها من الاتحاد الأوروبي ركيزة أساسية لخطاباتهم الدعائية، التي تغيرت بعد وصولهم إلى الحكومات الأوروبية، نتيجة مراجعتهم لمواقفهم تلك إزاء قضايا بلادهم، وقد يشير إلى إلى أمور محددة أبرزها أن ائتلافات وأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا منقسمة على نفسها في عدة قضايا مهمة، خاصة بين أحزاب شرق أوروبا وغربها نتيجة تعرض شرق أوروبا لهجمات روسية فيما تأمن غرب أوروبا من تلك الهجمات ولا ترى داعٍ للقلق على مستقبلها، وهو ما يصعب من موقف اليمين المتطرف من تبني موقف موحد إزاء تلك القضايا.

وتعيد تلك المواقف التأكيد على أن أحزاب اليمين المتطرف رغم راديكاليتها إلا أنها تسعى دائمًا للاندماج مع الكتلة الأوروبية، وتعلي من القضايا القومية، ومهما أطلقت من تصريحات لاذعة بشأن تكتل بروكسل أو قضية اللاجئين، أو الإسلاموفوبيا فستظل تلك التصريحات مرهونة بأوضاع تلك البلاد الداخلية، والتي تجبر حكومات اليمين المتطرف على تغيير بوصلتها إذا ما واجهت ما يستدعي التراجع عن مواقفها السابقة.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *