هل تقترب أوروبا من الحرب… أم تستعد فقط لمنعها؟

ابوبكر باذيب
تعيش القارة الأوروبية اليوم حالة توازن دقيقة بين خيارين: هل تقترب من حرب حقيقية، أم أنها تكتفي ببناء بنية ردعية تمنع الحرب من الأساس؟ القراءة الأكثر واقعية تشير إلى أن الاستعدادات الأوروبية ليست مؤشرًا لاقتراب مواجهة عسكرية، بل لإحباط أي تسوية أو واقع سياسي قد يضر بمصالحها أو يهدد أمنها الجماعي—خصوصًا بالتوازي مع مبادرة السلام التي طرحها دونالد ترامب بشأن الحرب الروسية الأوكرانية.
منذ وصول ترامب الى السلطة حاولت إدارته وضع إطار لتسوية سياسية، وقدمت خطة تضمنت نقاطًا أثارت جدلًا واسعًا في أوروبا، أهمها القبول ببقاء أجزاء من الأراضي الأوكرانية تحت السيطرة الروسية كجزء من اتفاق نهائي. هذه الفكرة أثارت قلقًا أوروبيًا كبيرًا خشية أن تتحول إلى سابقة تسمح بتغيير الحدود بالقوة، أو أن تظهر أوروبا وكأنها تقبل بإملاءات خارجية لا تراعي مصالحها ولا مصالح أوكرانيا.
هذا القلق دفع الأوروبيين إلى التحرك في أكثر من اتجاه. فقد بدأت دول الاتحاد الأوروبي بإعادة بناء حزامها الدفاعي، من خلال تعزيز الجيوش الوطنية، رفع الإنفاق العسكري، دعم الصناعات الدفاعية المحلية، وتوسيع التنسيق داخل حلف الناتو. ويُنظر إلى هذه التحركات باعتبارها رسالة ردع واضحة: أوروبا لن تقبل بأي اتفاق سلام يفُرض عليها أو على أوكرانيا من الخارج، ولن تسمح بتغيير التوازنات الأمنية دون موافقتها.
في الوقت نفسه، يدرك صناع القرار في أوروبا أن الاستعداد للحرب هو في الجوهر استعداد لمنعها. فامتلاك قوة عسكرية وسياسية واقتصادية متماسكة يقلل من فرص قيام موسكو بخطوات تصعيدية، ويمنع أي طرف دولي آخر من فرض تسوية غير متوازنة على حساب الأمن الأوروبي. ولهذا، تعمل أوروبا على الحفاظ على وحدة موقفها، وتصرّ على أن أي مفاوضات مستقبلية يجب أن تضم أوكرانيا بالكامل وألا تتجاوز مصالح الدول الأوروبية.
أما روسيا، فهي تواصل إرسال إشارات ضغط عبر المناورات العسكرية والتصريحات المتشددة، لكنها تعلم أن مواجهة مباشرة مع أوروبا أو مع الناتو ستكون مكلفة وغير مضمونة النتائج. لذلك يبقى الرهان الروسي على الضغط السياسي والإعلامي أكثر منه على عمل عسكري مباشر.
في المحصلة لا تعيش أوروبا لحظة اقتراب من حرب بقدر ما تخوض سباقًا لتعزيز قدراتها الردعية حتى لا تُفرض عليها تسوية تُضعف أمنها. فإعادة ترتيب البنية الدفاعية والسياسية والاقتصادية داخل الاتحاد الأوروبي تعكس رغبة واضحة في حماية السلام بمنطق القوة، لا بمنطق التهديد. غير أن هذا المسار يسلّط الضوء على فجوة عميقة في الرؤى بين الإدارة الأمريكية بقيادة ترامب وبين العواصم الأوروبية؛ إذ لم تنجح اللقاءات الشخصية ولا قنوات التواصل المباشر في تضييق تلك الفجوة أو خلق أرضية مشتركة صلبة يمكن البناء عليها في ملفات الأمن الأوروبي.
ومن الواضح أن هذا التباين دفع ترامب إلى محاولة تقريب موقفه من روسيا أكثر مما هو قريب من أوروبا، في محاولة لصياغة مقاربة عملية تتيح له تحقيق اختراق سياسي في ملف الحرب الأوكرانية. غير أن هذا التحول قد يجعل الفترة المقبلة أكثر حساسية، إذ قد يلقي النزاع الروسي–الأوكراني بظلاله على عدد من الملفات الدولية الأخرى، ويؤثر في منظومة التحالفات والتوازنات الجيوسياسية حول العالم. وبذلك تتحول كل خطوة تفاوضية أو عسكرية إلى عنصر حيوي في تحديد شكل المرحلة المقبلة، ليس في أوروبا وحدها، بل في النظام الدولي الأوسع





