الديمقراطية والاحتقان السياسي: قراءة في الحالة الهولندية

ابوبكر باذيب
تُعدّ الأنظمة الديمقراطية من أكثر الأنظمة السياسية التي تحظى بتقدير عالمي، لما توفره من حرية تعبير وتعددية سياسية وتداول سلمي للسلطة. غير أن هذه الأنظمة، رغم ما تقدمه من ضمانات للمشاركة الشعبية، ليست دائمًا خالية من التحديات. ففي بعض الدول التي تتبنى النظام البرلماني القائم على التمثيل النسبي، مثل هولندا، يمكن أن يؤدي التعدد الحزبي المفرط وصعوبة تحقيق الأغلبية البرلمانية إلى حالة من الجمود السياسي، بل وإلى احتقان شعبي ناتج عن بطء الأداء الحكومي وعجزه عن اتخاذ قرارات حاسمة في الملفات السياسية والاقتصادية.
النظام البرلماني الهولندي يُعدّ من أكثر الأنظمة تمثيلًا لتعدد الأصوات في المجتمع. فبفضل نظام التمثيل النسبي الكامل، تحصل حتى الأحزاب الصغيرة على مقاعد في البرلمان. ورغم أن هذا يضمن تمثيلًا عادلًا لمختلف الاتجاهات السياسية، إلا أنه يخلق في المقابل مشكلة الاستقرار الحكومي، إذ نادرًا ما ينجح حزب واحد في الحصول على أغلبية مطلقة تخوله الحكم منفردًا. ونتيجة لذلك، تُضطر الأحزاب إلى الدخول في مفاوضات طويلة ومعقدة لتشكيل ائتلافات حكومية.
هذه الائتلافات غالبًا ما تقوم على تسويات سياسية دقيقة أكثر من قيامها على توافقات أيديولوجية واضحة، وهو ما يجعل الحكومات الناتجة عنها هشة وضعيفة في اتخاذ قرارات حاسمة. فعلى سبيل المثال، استغرقت مفاوضات تشكيل الحكومة الهولندية بعد انتخابات عام 2021 أكثر من تسعة أشهر، في سابقة تاريخية، وتشكيل الحكومة بعد انتخابات 2023 ذات المدة تقريباً، ما عكس عمق الانقسام داخل الساحة السياسية الهولندية. هذا التعثر في تشكيل الحكومات يخلق لدى الشارع شعورًا بالإحباط وعدم الثقة في قدرة النخب السياسية على إدارة شؤون الدولة بفعالية.
الاحتقان السياسي والانعكاسات الاجتماعية:
يؤدي ضعف الحكومات الائتلافية إلى عجزها عن معالجة القضايا الحساسة، مثل أزمة السكن، والهجرة، والتغير المناخي، والضرائب، وهي ملفات تهم المواطن والشارع الهولندي بشكل مباشر. ومع كل أزمة جديدة، يتزايد الاستقطاب داخل المجتمع بين مؤيدي الأحزاب التقليدية ومناصري القوى اليمينية أو الشعبوية التي تقدم نفسها كبديل “حاسم” و“صريح”. هذا الوضع يغذي الاحتقان السياسي ويزيد من حدة الخطاب الشعبوي الذي يهاجم النخب السياسية ويتهمها بالعجز والبيروقراطية.
إضافة إلى ذلك، فإن استمرار التنازلات داخل الحكومات الائتلافية يجعلها تظهر في نظر الرأي العام وكأنها لا تمثل إرادة الناخبين الحقيقية، بل إرادة المصالح الحزبية المؤقتة. ومع الزمن، يؤدي ذلك إلى تآكل ثقة المواطنين بالديمقراطية نفسها، رغم أنها هي النظام الذي يمنحهم حق المشاركة والاختيار.
النتائج الاقتصادية والسياسية:
إن غياب الاستقرار السياسي لا ينعكس فقط على ثقة الجمهور، بل يمتد أيضًا إلى الاقتصاد الوطني. فالمستثمرون عادة يحتاجون إلى وضوح في السياسات الاقتصادية، بينما الحكومات الائتلافية المتنازعة داخليًا غالبًا ما تؤجل القرارات المهمة أو تتبنى حلولًا وسطًا لا تحقق نتائج ملموسة. كما أن غياب الإجماع داخل الحكومة يجعل من الصعب تنفيذ إصلاحات هيكلية طويلة المدى، خصوصا في القضايا التي تتطلب توجهاً مستقراً على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا لا يتوفر في الحالة الهولندية.
في المحصلة، رغم أن النظام الديمقراطي الهولندي يُعد نموذجًا متقدمًا في احترام الحريات والتعددية، إلا أنه يكشف أيضًا عن مفارقة معقدة: فكلما زادت المشاركة السياسية وتنوعت الأصوات، زاد خطر الانقسام والجمود، إن التحدي الأكبر أمام الديمقراطيات الحديثة، سيما تلك التي تقوم على الائتلافات البرلمانية، هو تحقيق توازن بين التعددية والاستقرار، بحيث لا تتحول الديمقراطية من وسيلة لإدارة الاختلاف إلى سبب في تعميقه.

 
 


