المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / كيف تصيغ أحزاب اليمين الأوروبية برامجها؟

كيف تصيغ أحزاب اليمين الأوروبية برامجها؟

كيف تصيغ أحزاب اليمين الأوروبية برامجها؟

د. جمال حسين

شهدت أوروبا خلال العقد الأخير صعودًا متدرجًا لأحزاب اليمين، لم يقتصر على البرلمانات الوطنية فحسب، بل امتد إلى الانتخابات المحلية والمهنية، وحتى إلى بعض المجالس النقابية. هذا التحول لم يعد حدثًا عابرًا، بل بات ظاهرة سياسية تستحق التوقف والتأمل لفهم مكوناتها: كيف تُصاغ البرامج؟ ما هي الحجج التي تستند إليها؟ ولماذا تجد صدى واسعًا لدى شرائح معينة من الناخبين في لحظات بعينها؟

في هذه السلسلة “أحزاب اليمين الأوروبية: من الاندثار إلى البزوغ”، سنحاول تفكيك هذه البنية خطوةً بخطوة لنضع القارئ أمام لوحة أوضح للخطاب اليميني الأوروبي: مصادر قوته، مرجعياته الفكرية، والتحديات التي يطرحها على مستقبل الديمقراطية في القارة.

كما غيرها من القوى السياسية، تصوغ برامجها ضمن سياق اجتماعي وسياسي محدد، حيث تلعب المخاوف الاقتصادية والهوياتية والأمنية دورًا بارزًا في تشكيل الخطاب العام. هذه البرامج تمثل محاولة لتفسير الواقع الاجتماعي والسياسي، وتقديم حلول محددة وفق رؤية الحزب. في هذه المقالة، نقدم قراءة تحليلية موضوعية لهذه البرامج، مع التركيز على المنطق والحجج التي تُستخدم، والبيئة التي نشأت فيها، والبدائل الممكنة للتعامل مع القضايا المطروحة.

هندسة المخاوف: من أحداث فردية إلى خطاب جماعي

تركز برامج بعض أحزاب اليمين على إبراز المخاطر التي يشعر بها المواطنون، سواء أكانت حوادث فردية، فضائح، أو أزمات إسكان، ثم ربطها بسردية مركزية: “الآخر يمثل تهديدًا”. مثال واضح على ذلك ما ورد في برنامج حزب “البديل من أجل ألمانيا (AfD)”، حيث يشير البرنامج إلى:

“تدفق المهاجرين غير المنضبط يهدد استقرار المجتمع الألماني ويزيد من الضغط على النظام الاجتماعي.”

هذا النص يعكس استراتيجية واضحة تقوم على ربط أحداث محددة بخطر شامل على المجتمع، ما يسهم في توليد شعور بالقلق الجماعي ويطرح ضرورة اتخاذ إجراءات محددة. من منظور التحليل الموضوعي، يمكن القول إن السردية تمزج بين المخاطر الحقيقية والرمزية، وهو ما يستدعي تقييمًا دقيقًا لمعرفة ما إذا كانت السياسات المقترحة استجابة عقلانية أم قيودًا رمزية تهدف إلى خلق شعور بالأمان الزائف.

في سياقات مماثلة، نجد في برامج حزب “الديمقراطيون السويديون” إشارات متكررة إلى الحاجة لمراقبة الهجرة بشكل صارم لضمان الاستقرار الاجتماعي، مما يعكس نمطًا متكررًا في الخطاب السياسي اليميني الأوروبي: تحويل مخاوف محددة إلى أجندة سياسية أوسع.

الهوية الوطنية بين الحماية والاستقرار

تركز برامج اليمين على تعزيز الهوية الوطنية، أحيانًا عبر إجراءات تحفظ القيم التقليدية، وأحيانًا عبر رموز وتشريعات محددة. مثال على ذلك ما ورد في برنامج “الجبهة الوطنية” الفرنسي سابقًا:

“حماية الهوية الفرنسية تعني فرض قوانين صارمة على القادمين الجدد لمنع فقدان قيمنا.”

يبرز النص رغبة الحزب في حماية ما يعتبرونه “الهوية الوطنية”، لكن من المهم ملاحظة أن الهوية في الواقع الاجتماعي ليست ثابتة، بل هي عملية تفاعلية تتغذى من التبادل والتجربة المشتركة. التحليل الموضوعي يكشف أن البرنامج يسعى إلى ضبط عملية الاندماج عبر سياسات محددة، بما يعكس منطقًا سياسيًا قائمًا على الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي وفق رؤية الحزب، وليس بالضرورة توجيهًا عدائيًا ضد فئات معينة.

برامج أخرى، مثل تلك الصادرة عن حزب “الحرية” الهولندي (PVV)، تقدم أيضًا خطابات تركز على حماية التراث الثقافي، مع التركيز على سياسات رمزية تتعلق باللغة والدين، مما يعكس فهمًا مركزيًا للهوية الوطنية كعامل للاستقرار الاجتماعي، وليس مجرد أداة للتمييز.

الأمن والهجرة: تفسير جزئي للواقع

العديد من برامج اليمين الأوروبية تربط بين الهجرة والأمن، كأنها معادلة مباشرة. على سبيل المثال، نص من برنامج حزب “فوق كل شيء لوطننا” النمساوي يشير إلى:

“الهجرة غير المنضبطة تؤدي إلى زيادة الجرائم والانتهاكات القانونية.”

من منظور التحليل الموضوعي، هذه العلاقة ليست دائمًا سببًا ونتيجة مباشرة؛ فمعدلات الجريمة تتأثر بعدة عوامل مثل بنية السكان، البطالة، جودة الخدمات العامة، وكفاءة الشرطة. بالتالي، البرامج تقدم تفسيرًا محددًا للواقع، لكنه غالبًا يختزل عدة عوامل في متغير واحد (الهجرة)، وهو ما يستدعي تقييم المخاطر من منظور أوسع للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية.

الاقتصاد: تبسيط للتفسير

الأزمات الاقتصادية المعقدة غالبًا ما تُقدم في برامج اليمين بشكل مبسط: “المهاجرون سرقوا وظائفكم”، أو “بروكسل تمنعنا”. هذه العبارات، رغم قدرتها على جذب الانتباه، تختزل التحليل وتغفل عوامل مهمة، مثل تأثير الأتمتة، العولمة، السياسات الصناعية، والتحولات في أسواق العمل.

على سبيل المثال، برنامج حزب “الديمقراطيون السويديون” ركز على ما يعتبره “تأثير الهجرة على سوق العمل”، بينما الدراسات الاقتصادية تشير إلى أن التحولات التقنية والعولمة تلعب دورًا أكبر في إعادة توزيع الوظائف والفرص الاقتصادية. التحليل الموضوعي هنا يكشف ضرورة النظر إلى الأسباب الحقيقية للأزمات الاقتصادية، بعيدًا عن تبسيطها إلى كبش فداء جاهز.

الشعبوية تواجه النخب

تسعى بعض أحزاب اليمين إلى تصوير نفسها كقوة تمثل “صوت الشعب” في مواجهة “النخب”. مثال من برنامج حزب “الديمقراطيون السويديون”:

“نحن صوت الشعب، ونعمل على كسر احتكار النخب للقرار.”

الخطاب هنا يعكس رغبة في تعزيز المشاركة السياسية وتقديم نفسه كبديل رقابي، لكنه يحتاج إلى دراسة كيفية تحقيق ذلك ضمن الأطر الديمقراطية، وما إذا كانت الوسائل المقترحة تساهم في الشفافية والمساءلة أو تمثل خروجًا عن المؤسسات القائمة.

استدعاء الماضي  مرجعية ثقافية وانتقائية

تلجأ بعض البرامج إلى استحضار الماضي، مثل الإشارة إلى إمبراطوريات أو تراث ثقافي أو قيم تقليدية، لتقديم معايير لقياس الحاضر. هذه الاستعارات تعزز شعور الانتماء، لكنها لا تقدم حلولًا مباشرة للتحديات الاقتصادية أو التكنولوجية المعاصرة، مثل جذب العمالة الماهرة، تطوير البنية التحتية، أو دعم الابتكار.

برامج مثل تلك الصادرة عن حزب “الحرية الهولندي” تسلط الضوء على الماضي الثقافي لتأكيد هوية جماعية، لكنها تتجاهل غالبًا التحديات الحديثة المرتبطة بالاقتصاد الرقمي والتعليم والتكنولوجيا.

التشدد في ثوب العقلانية

عبارات مثل “لسنا ضد الأجانب، نحن نريد النظام” تهدف إلى تقديم سياسات صارمة على شكل تنظيم عقلاني. التحليل الموضوعي يشير إلى أن هذه اللغة قد تضفي مصداقية على الإجراءات المقترحة، لكنها تحتاج مراقبة دقيقة للتأكد من أن تطبيقها لا يؤدي إلى إقصاء غير مبرر لفئات معينة.

ثنائية نحن،هم

الخطاب السياسي غالبًا ما يحدد هوية واضحة للأطراف: نحن  المجتمع، هم الجهات الأخرى، سواء المهاجرون، الاتحاد الأوروبي، أو النخب. هذه الثنائية تبسط الواقع وتمنح وضوحًا للخطاب، لكنها قد تبني شعورًا بالانقسام. التحليل الموضوعي يوضح أن المجتمعات الحديثة متعددة القيم وتحتاج إلى مفاضلات عقلانية بدل الانحياز للثنائية المطلقة، لضمان استقرار سياسي واجتماعي متوازن.

مقارنة تاريخية: سياق التحركات الحالية

بينما تشير الدراسات التاريخية إلى أن الفاشية والنازية اعتمدت على تمجيد القومية وشيطنة الآخر، فإن برامج اليمين المعاصر غالبًا تعمل ضمن إطار دستوري ونظام انتخابي، مع تجنب الرموز الصريحة. التحليل هنا يجب أن يركز على المنطق السياسي والخلفيات الاجتماعية بدلاً من المساواة المباشرة بين السياقات المختلفة، مع مراقبة الخطاب لتجنب الانزلاق نحو ممارسات سلطوية محتملة.

بدائل سياسية وعملية

التحليل الموضوعي لبرامج اليمين يتيح تقديم بدائل عملية يمكن أن تتعامل مع المخاوف المطروحة دون تبسيط المواقف أو اللجوء إلى الإقصاء، مثل:

إدارة هجرة مرنة تتوافق مع الاحتياجات الاقتصادية، مع سياسات اندماج واضحة وفعالة.

سياسات أمنية تستهدف مسببات الجريمة بشكل موضوعي، بدل ربطها مباشرة بمجموعة معينة.

عقد اقتصادي-اجتماعي يعيد توزيع المنافع، مع استثمار في التدريب ودعم المناطق الأقل تطورًا.

تعزيز هوية منفتحة قائمة على المواطنة والحقوق، لا على الأصل فقط.

مؤسسات شفافة ومسؤولة تعزز الثقة العامة وتحد من جاذبية السرديات المبسطة.

وفي النهاية يمكن ان نستنتج أن برامج أحزاب اليمين الأوروبية تمثل قراءة محددة للواقع الاجتماعي والسياسي، وتعتمد على مخاوف حقيقية أو محسوسة، لكنها غالبًا تختزل الأسباب والنتائج. التحليل الموضوعي يكشف أن هذه البرامج تقدم أدوات للتعامل مع المخاوف، لكنها تحتاج تقييمًا شاملًا للنتائج الواقعية والاجتماعية. المستقبل السياسي يحتاج إلى سياسات مدروسة، وحوار مستمر، وقدرة على تقديم حلول عملية توازن بين الاستقرار وحماية الحقوق، بعيدًا عن الخطابات المبسطة أو التحريضية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *