قمة الناتو في لاهاي: تحولات الحلف في مواجهة العاصفة الأمريكية

لاهاي، المدينة التي وُلدت فيها مفاهيم العدالة الدولية، شهد العالم مشهدًا سياسيًا معقدًا على طاولة قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). خلف الكواليس، وبين التصريحات الرسمية المصقولة، كانت رياح التحول تعصف بالمبادئ القديمة التي حكمت الحلف لعقود. قمة لاهاي لم تكن مجرد مناسبة بروتوكولية لتجديد التزامات أمنية، بل لحظة حاسمة أعادت تشكيل ملامح الناتو، وربما الغرب بأسره.
مارك روته: من رئاسة الوزراء إلى قيادة الحلف
نجاحٌ سياسي غير مسبوق أحرزه مارك روته، رئيس الوزراء الهولندي السابق، الذي لم يكتف بتولي منصب الأمين العام للناتو، بل سعى ليكون صانع التحول الأكبر في تاريخ الحلف منذ الحرب الباردة. برؤية حاسمة وخطة مدروسة، استخدم روته قلق الأوروبيين من انسحاب أمريكي محتمل كورقة ضغط، ودفع باتجاه هدف كان يبدو إلى وقت قريب ضربًا من الخيال: رفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج القومي لكل دولة عضو.
ورغم تحفظات مدريد وباريس وروما، ورغم أصوات المعارضة اليسارية التي وصفت الأمر بـ”الخضوع للابتزاز الأمريكي”، إلا أن روته استطاع – بخطاب واقعي وتحالفات شخصية – أن يُقنع الجميع. استثمر صداقته مع العائلة المالكة الهولندية، ونجح في توطيد العلاقة مع دونالد ترامب، الذي وافق بشكل لافت على تمديد إقامته يومًا إضافيًا في القصر الملكي.
ترامب وروته: تحالف المصلحة أم استعراض الهيمنة؟
بينما كان روته يقطف ثمار انتصاره، باغت ترامب الجميع بحركة لا تخلو من استعراض: نشر رسالة خاصة تلقاها من الأمين العام الجديد، يقول فيها صراحة “على أوروبا أن تدفع الثمن”. رسالة أحرجت روته، وبدت وكأنها تكشف خضوعه لإملاءات واشنطن، لا قيادته المستقلة للحلف. مواقع التواصل ضجّت بالسخرية، والانتقادات تعددت، لكن الواقع كان أقوى من العناوين الساخرة: الناتو تغيّر… وترامب وروته هما من أعادا رسم ملامحه الجديدة.
أوروبا تدفع … والعدو دائمًا هو روسيا
لتمرير قرار الـ5%، كان لا بد من سردية مقنعة. فتمّ إعادة تثبيت “روسيا” كعدو أول. رغم أن موسكو، بعد ثلاث سنوات من حربها في أوكرانيا، تبدو منهكة ومعزولة اقتصاديًا، إلا أن القمة أعادت الترويج لتهديدها كضرورة دفاعية، حتى لو تطلب الأمر خصمًا من موازنات التعليم والصحة والسكن.
المفارقة أن الشعوب الأوروبية، التي تُحمّل فواتير هذه السياسات، لم تُستَشر في الأمر. لم تُطرح المسألة على برلمانات منتخبة، ولم تُفتح للنقاش العام، بل قُررت خلف أبواب مغلقة… تمامًا كما يحدث في أنظمة يُفترض أن تختلف عنها أوروبا جوهريًا.
زيلينسكي… الحاضر الدائم و”الضيف الثقيل”
وكما جرت العادة، حضر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي القمة، مكرّرًا رسالته الثابتة: “نحن نقاتل عنكم”. لكن حرارة الدعم خفتت. أوروبا تميل إلى المساعدة اللوجستية والمالية، لكن الانضمام الكامل لأوكرانيا إلى الحلف لا يزال مرفوضًا – بطلب مباشر من واشنطن، التي لا تريد الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع موسكو. هكذا، تُمنح كييف الأسلحة، لكنها تُمنع من العضوية.
الصراع الإيراني–الإسرائيلي… حاضر في الظل
رغم غيابه عن جدول الأعمال الرسمي، فإن التوتر المتصاعد بين إسرائيل وإيران حضر بقوة في كواليس القمة. القلق من توسع النزاع، وتهديده للمصالح الغربية في المتوسط والخليج، أعاد تذكير الحلف بأهمية الجبهة الجنوبية، حتى وإن كان دوره المباشر فيها محدودًا.
أين الشعوب من كل هذا؟
قادة الناتو اجتمعوا، قرروا، وقّعوا، لكن من تحدّث باسم الشعوب؟ من مثّل المواطن الأوروبي الذي ستُقتطع من ميزانيته مليارات لصالح التسلّح؟ وماذا عن ملايين الأسر التي تواجه أزمات حقيقية في المعيشة، والعمل، والرعاية الصحية؟ لقد بدت القمة وكأنها تجري فوق رؤوس الناس… لا من خلالهم.
الديمقراطية الأوروبية في مهب الريح
وسط كل هذه التحولات، يُطرح سؤال لا مفر منه: أين ذهبت المبادئ الديمقراطية التي تُفاخر بها أوروبا؟ قرارات بمليارات اليوروهات، تمسّ مستقبل الأجيال، تُتخذ دون تفويض شعبي أو استفتاء أو حتى نقاش برلماني جاد. وكأن أوروبا تخلّت عن أحد أعمدة مشروعها السياسي الحديث: القرار الجماعي القائم على المحاسبة.
إن اتخاذ مثل هذه القرارات المفصلية، خارج إطار الشفافية والتمثيل الشعبي، يضرب قلب الديمقراطية الأوروبية. وفي قمة يُفترض أن تُمثّل وحدة المصير والمصالح المشتركة، بدا المشهد وكأنه إعادة إنتاج لنموذج قديم: أصحاب النفوذ يقررون، والآخرون يُنفذون.
هل قمة لاهاي بداية جديدة… أم إعلان نهاية مرحلة؟
قمة الناتو في لاهاي لم تكن فقط لحظة سياسية. كانت اختبارًا أخلاقيًا لتحالفٍ لطالما اعتبر نفسه حارس الديمقراطيات. لكن من يتأمل نتائجها يدرك أن الحلف قد تغيّر. لم يعد تحالفًا جماعيًا بقدر ما أصبح أداة لإعادة هيكلة ميزان القوة داخل الغرب نفسه.
ربما تكون هذه القمة بداية ولادة ناتو جديد… أقل تشاركية، أكثر مركزية. ناتو لا يشبه النسخة التي عرفناها، بل نسخة يقودها من يُجيد التفاوض في الظلام، لا من يُمثّل الإرادة العامة في النور.