المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / هل تتصدى الديمقراطية للدكتاتورية ؟

هل تتصدى الديمقراطية للدكتاتورية ؟

هل تتصدى الديمقراطية للدكتاتورية ؟

د.جمال محسن

حين يختلط الخوف بالقيم: هل تتصدى الديمقراطية للدكتاتورية ؟

كنت دائم النقاش مع صديقي المقيم في أمريكا منذ اثني عشر عامًا حول موقفه من الرئيس السابق دونالد ترامب. صديقي هذا، ورغم تألمه الشديد من سياسات ترامب خلال ولايته الأولى – وخاصة قراره بمنع مواطني سبع دول، من دخول الولايات المتحدة – إلا أن موقفه تغيّر بشكل جذري في الانتخابات الأخيرة، لا هو فقط، بل كثير من العرب والمهاجرين الذين بدأوا يؤيدون ترامب، لأسباب متعددة، أبرزها – كما أخبرني صديقي – موقف ترامب الرافض لمجتمع الميم.

وحين سألته: لماذا تدعم شخصًا عانى منه إخوتك وأهلك؟ أجابني: “أخشى على أطفالي من تأثير هذا المجتمع في المستقبل، وأرى أن معركة ترامب ضده هي حماية لهم”.

لكنني لم أستطع أن أقتنع، وتساءلت: كيف يمكن لمجتمع صغير، يعيش تحت طائلة التمييز، أن يشكل خطرًا على أطفالك؟ وفي المقابل، ألا يستحق تاريخ ترامب الأخلاقي وقيمه أن يُخشى منها أكثر؟ من رجل ارتبط اسمه بتجارة الجسد، وعروض المصارعة، وترويج الأجساد سلعة إعلامية؟ كيف يتجاهل هؤلاء أن أسرة ترامب نفسها ليست نموذجًا أخلاقيًا يحتذى به؟ وكيف يمكن اعتبار من يقف على منصة “WrestleMania” مدافعًا عن القيم العائلية؟

صديقي لم يكن استثناء. كثير من المهاجرين في أوروبا، ممن لهم حق التصويت، بدأوا بالانحياز لليمين، فقط لأن اليمين يروج لفكرة أنه “يحمي القيم التقليدية” من مجتمع الميم، متناسين أن اليمين ذاته، في سياساته الاقتصادية والاجتماعية، يسحقهم ويجردهم من أبسط حقوقهم.

ما يحدث الآن يشبه مشهدًا كاريكاتيريًا: ملياردير، يعاني من جنون السلطة، يُصور نفسه حامي القيم، بينما كل تحركاته تسعى لتوسيع نفوذه، حتى لو على حساب الحرية والديمقراطية. وجد ضالته في ترامب، ودعمه بلا حدود، ثم راح يتمدد نحو أوروبا، يمول اليمين المتطرف في ألمانيا، والسويد، وهولندا وغيرها، تحت شعار “العودة إلى الجذور”، بينما الحقيقة هي “العودة إلى الظلام”.

فماذا كانت النتيجة بعد أربع سنوات من حكم ترامب؟

لم تتوقف الحروب، ولم يتحسن الاقتصاد، ولم تُحقق أمريكا أي ازدهار عالمي يُذكر. بل العكس:

ازداد التوتر الداخلي والخارجي.

تعمقت الانقسامات العرقية والدينية والاجتماعية.

وتحولت أمريكا إلى دولة تُهدد العالم لا تُلهمه.

بل إنه أعلن صراحة رغبته في تعديل الدستور ليترشح لولاية ثالثة. وبدأ يلوّح بترحيل من يعارضه، بل وسحب الجنسية ممن ينتقدونه، وكأننا أمام نسخة محدثة من الديكتاتوريات التاريخية، ولكن بلغة العولمة.

حتى في فريقه الحكومي، لم يتورع أحدهم عن التهديد بطرد من يعترض على مستشارة إيلون ماسك – وهي ابنة ماسك المتحولة – وكأن النظام بات يعمل لمصلحة أفراد بعينهم، بينما تُسحق مبادئ الحرية والكرامة.

هذا الانهيار الأخلاقي، المغلف بالشعارات، تغذيه إمبراطوريات إعلامية ضخمة، لا همّ لها إلا خدمة مصالح المليارديرات، على حساب الطبقات المتوسطة والفقيرة، وعلى حساب قيم الإنسانية.

ومع ذلك، لا تزال بعض الأصوات تبرر:

“ترامب يعمل لأجل أمريكا”…

“لن يشعل الحروب”…

“سيعيد بناء الاقتصاد”…

لكن الواقع يكذّب كل ذلك.

لقد خرجت مؤخرًا مظاهرات حاشدة في مدن أمريكية تحت شعار: “ارفعوا أيديكم عن ديمقراطيتنا” – وهذا وحده دليل على وعي الناس بالخطر الداهم الذي يهدد جوهر التجربة الأمريكية.

نعم، قد يتمكن البعض من خداع الناس لبعض الوقت، لكن الحقيقة لا تموت.

ومهما علا صوت الدكتاتورية، ستنتصر القيم في النهاية.

ومهما ازدهرت إمبراطوريات المال، فإنها إن لم تُبْنَ على العدل، ستنهار، عاجلاً أو آجلاً.

لهؤلاء الذين هرولوا نحو الدكتاتورية، ظنًا أنها الحصن الأخير للأخلاق والقيم، نقول:

أنتم تراهنون على الوهم، والتاريخ لا يرحم.

وسيأتي يوم تُراجعون فيه أنفسكم، وتدركون أن دعم الاستبداد لا يصنع أمنًا، ولا كرامة، ولا مستقبلًا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *