المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / لماذا لم تشارك أوروبا من محادثات السعودية

لماذا لم تشارك أوروبا من محادثات السعودية

لماذا لم تشارك أوروبا من محادثات السعودية

مثلت القمة الروسية الأمريكية التي عقدت في قصر الدرعية شمال غرب العاصمة السعودية الرياض مسعى مختلف ومثير في مسار الحرب الروسية الاوكرانية، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى التوسط للوصول إلى حل سياسي وتسوية يمكن أن تفضي إلى وقف إطلاق النار في أوكرانيا، على الرغم من غياب الطرف الأوكراني عن حضور تلك المفاوضات سواء بتمثيل دبلوماسي على مستوى وزارء الخارجية أو بتمثيل رسمي للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

الموقف الأوروبي من محادثات الرياض

غير أن المثير في موقف القمة هو رد الفعل الأوروبي حيال تسوية القضية الأوكرانية، إذ ينقسم المجتمع الأوروبي حيال تلك المفاوضات التي تحمل في طياتها رفضًا روسيًا لانضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”، على الرغم من موافقتها على انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، إذ لا تمانع روسيا أن تنضم أوكرانيا إلى أي تكتل سياسي لا يستتبعه الانضمام لتكتل عسكري كحلف الناتو، وهو ما توافقت عليه الولايات المتحدة الأمريكية مع روسيا، في الجلسة الأولى التي جمعت وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ونظيره الأمريكي ماركو روبيو في الرياض، وهو ما دعا أوروبا لأن تعلن عن استراتيجية الاستقلال الدفاعي بعد الاستنزاف الكبير الذي عانت منه مخازن الأسلحة لدول أوروبا منفردة أو مخازن التكتل نفسه.

وقد كان أول ردة فعل من أوروبا صادرة عن فرنسا التي تعد بمثابة قلب التكتل، والذي أعلن أن بلاده ستستضيف اجتماعًا مع دولًا أوروبية وغير أوروبية بشأن أوكرانيا، والذي اعتبر أن جهود الولايات المتحدة في هذا الصدد يمكنها أن تثني الرئيس الروسي عن الاستمرار في الحرب، بل وأعلن أنه على استعداد أن يتحدث مع نظيره الروسي للضغط عليه للاستمرار في مفاوضات  وقف الحرب، وقد ينضم إليه قادة دول أخرى كوسيلة للبحث عن دور سياسي في عملية التسوية السياسية، في ظل اتساق المزاج العام للزعماء الأوروبيين الجدد والمحسوبين على اليمين المتطرف، والذين تتشابه أجندتهم مع أجندة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من جانب، فيما يرتبط بعضهم الآخر بعلاقات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، علاوة على دعوات كثير من القادة الأوروبيين ضرورة إطلاق حوار مع الرئيس الروسي لوقف الحرب على أوكرانيا لتجنب الأزمات الاقتصادية الناتجة عن تلك الحرب، والتوقف عن إرسال المزيد من الأسلحة والأموال لأوكرانيا في ظل عدم وضوح الصورة بشأن موعد توقف تلك الحرب.

وسبق ذلك لقاء جمع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين للمبعوث الأمريكي لأوكرانيا وروسيا كيث كيلوج في بروكسل، والتي أكدت خلال ذلك اللقاء على أن أوروبا مجتمعة تسعى لوقف الحرب بما يحقق استقلال أوكرانيا، وأن التكتل مستعد للعمل مع الرئيس الأمريكي بشأن تلك القضية. وهو ما يشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تعمل على إشراك دول أوروبا في مصير تلك المحادثات ولكن بشكل غير مباشر.

لكن يبدو من التصريحات الصادرة من الإليزيه أن الولايات المتحدة الأمريكية جنبت دول التكتل المشاركة في المفاوضات لتجنب الأثر المباشر لتصريحات قادة أوروبا على سير المفاوضات، خاصة بعدما أكدت باريس أن وزير الخارجية الأمريكي أطلع قادة الاتحاد الأوروبي على نتائج الجولة الأولى من المفاوضات في الرياض.

 

استراتيجية الاستقلال الدفاعي لأوروبا

تعرضت دول أوروبا لأزمة في مارس من العام الماضي 2024، بعدما فشلت في الوفاء بالتزاماتها الدفاعية تجاه أوكرانيا، وتسليمها مليون قذيفة بسبب عدم تمكنها من إنتاج الكميات الكافية من القذائف، إذ أنتجت دول أوروبا مجتمعة نصف الكمية المطلوبة في تلك الفترة فقط، وهو ما دعا قادة أوروبا لتكليف المفوضية الأوروبية برسم استراتيجية “الاستقلال الدفاعي” لأوروبا، باعتبارها أحد الأهداف الاستراتيجية المهمة للقارة، في ظل التفوق العسكري الروسي، الذي يمكنها من امتلاك الوسائل العسكرية للتفوق على أي شريك أو حليف أوروبي في أي مواجهة عسكرية، خاصة وأن كثيرون يتوقعون أن تعود روسيا لمهاجمة أوكرانيا مرة أخرى أو أي حليف أخر خلال العشر سنوات المقبلة.

وعلى هذا الأساس تحاول دول أوروبا التفاوض لتطبيق استراتيجية “التفضيل الأوروبي” للإنفاق الدفاعي، بمعنى أن تعتمد دول أوروبا على نظيرتها من دول التكتل في إنتاج وشراء الأسلحة اللازمة، بحيث تقلل من فاتورة استيراد الأسلحة من الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل تهديدات دائمة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية على دول أوروبا إذا لم تشتري منتجات أمريكية بمبالغ طائلة تقدر بمليارات الدولارات، والتي تكون أغلبها عادة منتجات عسكرية.

وتشير تلك الاستراتيجية إلى احتمالية أن تتوتر العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول التكتل بناء على عدة محددات وهي:

أولًا: التهديدات المستمرة للرئيس الأمريكي ضد حلفاءه بفرض رسوم جمركية

ثانيًا: بدء مراحل التسوية السياسية بشأن أوكرانيا في غياب كامل للجانب الأوروبي

ثالثًا: سياسة الاستقلال الدفاعي كأحد الاستراتيجيات الأوروبية في سياق مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وعدم الاعتماد على السلاح الأمريكي.

وتشير تلك المحددات إلى بروز حالة من التوتر بين الجانب الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، إذ ما يزال الرئيس الأمريكي مصرًا على تعزيز صادرات بلاده إلى دول أوروبا، وتعزيز صادرات السلاح الأمريكية، والاستثمار في السوق الأمريكي بمليارات الدولارات، وهو ما يضع أوروبا في حرج بالغ أمام خطة ترامب الاستثمارية.

لكن هناك أزمة أخرى تتعلق بالموقف الأوروبي إزاء سياسة الاستقلال الدفاعي، إذ يبرز نوع من الانقسام بين القوى الأوروبية تجاه تلك الاستراتيجية، ففي ظل وجود أصوات تطالب بالعمل على تلك الاستراتيجية لتحقيق الاستقلال الدفاعي في أوروبا بحيث تشتري دول أوروبا السلاح من بعضها لتصبح أكثر استقلالية، فإن هناك أصواتًا أخرى تطلب التواصل مع الولايات المتحدة لتحقيق أجندة اقتصادية مفيدة للجميع، وهي وجهة النظر التي يتبناها رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، ونظيره الليتواني جيتاناس نوسيدا، والذي دعا إلى شراء المزيد من الغاز الطبيعي والمعدات العسكرية من الولايات المتحدة الأمريكية.

 

 

لكن في كل الأحوال فإن الرئيس الأمريكي أعلن موافقته على إشراك أوروبا في حل الأزمة بشكل أخر يتمثل في السماح بنشر قوات حفظ سلام أوروبية في أوكرانيا إذ رغبت دول أوروبا في ذلك، إذ تحجج أن بلاده لن يمكنها المشاركة في عملية الانتشار العسكري في أوكرانيا لبعد المسافة، إلا أن بروتوكول الضمان الأمني الذي ستسفر عنه محادثات السعودية من الممكن أن تتضمن إشراكًا أوروبيًا في حل الأزمة من خلال الدفع بقوات حفظ سلام أوروبية، إذا اتفقت الأطراف على حل نهائي للأزمة.

خاتمة

قد تجبر الرسائل التي أرسلها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن أوروبا إلى تعديل سياسات الاتحاد تجاه القضايا الدولية، وفي القلب منها سياسات أوروبا الدفاعية، خاصة بعدما دعت بلجيكا إلى دمج شركات الصناعات الدفاعية الأوروبية العملاقة في عدد محدود من الشركات لتلبية احتياجات القارة العجوز من المستلزمات الدفاعية بعيدًا عن الدعم الأمريكي لأوروبا، وهو ما رفع أسهم الشركات الدفاعية الأوروبية، حيث كشفت الإحصائيات عن ارتفاع أسهم شركة راينميتال الألمانية بمعدل 6%، وارتفعت أسهم شركة BAE Systems البريطانية بنسبة 5%، كما صعدت أسهم شركة تاليس الفرنسية بنسبة 3.8%. كما وصل مؤشر ستوكس الأوروبي للدفاع والفضاء إلى أعلى مستوياته منذ أوائل التسعينيات، وذلك طبقًا لإحصائيات صادرة عن المفوضية الأوروبية.

وهو ما يشير إلى أن أوروبا قد تلجأ إلى سياسة الانكفاء على الذات خلال الفترة المقبلة، في ظل السياسات الأحادية التي ينتهجها الرئيس الأمريكي تجاه الجميع، لا سيما وأن سياسات ترامب أزعجت أوروبا سواء فيما يتعلق بفرض رسوم جمركية، أو بتجاهلها في الأزمة الأوكرانية، أو بتقربه من الرئيس الروسي على حساب الجميع، وانتهاءً برغبته في الاستحواذ على كندا وجرينلاند وجعلهما ولايات أمريكية، بجانب السيطرة على قناة بنما.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *