المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / أثر تغيير العقيدة النووية الروسية على مستقبل أوروبا

أثر تغيير العقيدة النووية الروسية على مستقبل أوروبا

أثر تغيير العقيدة النووية الروسية على مستقبل أوروبا

 

ما تزال أصداء قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتغيير العقيدة النووية لبلاده محل بحث من القوى الأوروبية، التي بدأت باتخاذ إجراءات وتدابير وقائية ومعلوماتية حال استخدم غريمهم الروسي قرارًا بالردع النووي لهجوم أوكراني مباغت على بلاده، خاصة بعدما سمحت واشنطن لكييف باستخدام صواريخ “أتاكمز” طويل المدى لمهاجمة عمق موسكو، وهو الإجراء الذي له ما بعده على مستقبل العلاقات الروسية مع أوروبا من الناحية الدبلوماسية والعسكرية.

قالت روسيا إن بايدن يصب الزيت على النار في إطار الحرب الروسية الأوكرانية، ولجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى “تغيير العقيدة النووية” لروسيا لمواجهة أي اعتداء على بلاده خاصة وأن صواريخ “أتاكمز” طويلة المدى هي صواريخ أمريكية سلمتها واشنطن لكييف للرد على الهجمات الروسية على أوكرانيا، ورفضت واشنطن في وقت سابق السماح لأوكرانيا باستخدام تلك الصواريخ خشية توسع نطاق الحرب، وهو ما جعل روسيا تعتبر أن السماح لأوكرانيا باستخدام تلك النسخة من الصواريخ المتطورة بمثابة ضوء أخضر بتوسيع نطاق الحرب.

العقيدة النووية الروسية:

أعلنت روسيا عن أول عقيدة نووية لها عام 2000، إذ استندت على أهمية “الردع النووي” لحماية السيادة الروسية على أراضيها، غير أن تلك العقيدة خضعت للتحديث عام 2021 وهو ما يعكس التطور الاستراتيجي على المستوى العسكري، خاصة بعدما تحدثت روسيا عن حقها في الرد على “الثالوث النووي” وهو “الصواريخ بعيدة المدى وصواريخ الغواصات والقاذفات الاسترتيجية”، وهي الأسلحة التي لم تكن مدرجة في عقيدتها الأولى للردع النووي، ما يعكس رغبة في تحييد أية هجمات على روسيا عبر “البر أو البحر أو الجو”.

وتشير مسيرة العقيدة النووية لروسيا إلى حالة من التذبذب الواضح في قرارات موسكو بشأن الردع النووي. ففي الحقبة السوفيتية اعتمدت على مبدأ “الانتقام الشامل” وهو مبدأ يرتكز على ضرورة الرد القوي والشامل على أي هجوم نووي أو تقليدي على روسيا، وفي مرحلة لاحقة لجأت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي إلى مبدأ “الحرب النووية المحدودة” لتوجيه الردع النووي على نطاق محدود لتجنب التصعيد العسكري الشامل، فيما لجأت أخيرًا مع تطورات الحرب الروسية الأوكرانية إلى تغيير عقيدتها مرة أخرى لتوسع من نطاق ردعها النووي في حالة أي هجوم عليها بأسلحة حددتها هي.

وقد احتل الحديث عن تغيير العقيدة النووية الروسية مكانة بارزة في الأونة الأخيرة نظرًا لأن روسيا تعتبر الدولة الأولى في العالم في امتلاك الرؤوس النووية، إذ تشير تقديرات إلى امتلاك روسيا أكثر من 6375 رأسًا نوويًا حتى عام 2021، إلا أن تلك التقديرات غير دقيقة، حيث يشير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام عن امتلاك روسيا لـ 5580 رأسًا حربيًا طبقا لتقديرات صادرة عن المركز في يناير 2024 الماضي، علمًا بأن هذا التقدير يشمل إجمالي المخزون من الرؤوس المخزنة والمتقاعدة.

رد الفعل الأوروبي:

فوجئت دول أوروبا – الأعضاء بحلف الناتو – بالقرار الروسي، خاصة وأن دول أوروبا أصلا منقسمة على فكرة الحرب الروسية الأوكرانية، في ظل وجود أصوات تطلب ضرورة وقف الحرب بناء على عملية تفاوض، وجزء أخر من تلك الدول أوقف بالفعل صادرات سلاحه إلى أوكرانيا بحجة تعزيز دفاعاته العسكرية أولًا.

لكن على المستوى الرد على قرار روسيا الأخير لجأت دولًا أوروبية إلى مستوى أخرى من الرد يكشف عن مخاوف أوروبية من القرار الروسي، خاصة بعدما لجأت السويد وفنلندا والنرويج إلى توزيع ما يعادل 5 ملايين كتاب توعوي على الأسر في الدول الثلاث لتوعيتهم بالحرب النووية، فيما أنشأت فنلندا موقعًا على الشبكة العنكبوتية لنشر بعض التعليمات التي تحافظ على حياة المواطنين في وقت الحرب النووية حالة اندلاعها. وتعد فنلندا أكبر المتخوفين من تلك الحرب نظرًا لارتباطها مع روسيا بحدود يبلغ طولها حوالي 1340 كيلومترًا.

أما عن القوتين النوويتين الأوربيتين وهما المملكة المتحدة وفرنسا فإنهما قد يحتاجان إلى إعادة النظر مرة أخرى في تشكيل عقيدتيهما النوويتين، لمعالجة ما يمكن تسميته “الخلل النووي” بين موسكو والعاصمتين، خاصة وأن المملكة المتحدة تمتلك فقط 225 رأسًا نووية، وتمتلك فرنسا 290 رأسًا نووية، وهو عدد ضئيل إذا ما قورن بما تمتلكه روسيا، يضاف إلى ذلك  وجود مخاوف من انسحاب الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب من حلف شمال الأطلسي “الناتو” أو التلويح من ترامب باستخدام المادة الخامسة من ميثاق “الناتو” لرفض أي هجوم أو رد على روسيا، إذ تتطلب تلك المادة ضرورة موافقة كامل أعضاء الحلف على توجيه ضربة إلى أي خصم.

وعلى الرغم من ضعف الرد الأوروبي على القرار الروسي سواء من خلال نشر كتيبات أو تدشين موقع إليكتروني لتوعية المواطنين، فإن ذلك يعكس تفوقًا روسيًا على المستوى الميداني ويجعل دول أوروبا تعيد حساباتها مجددًا إذ قررت الولايات المتحدة الأمريكية – قبل انتهاء فترة حكم بايدن – توجيه ضربة نوعية إلى روسيا، لكن في النهاية يبدو أن مستوى التصعيد بين الجانبين (روسيا – الناتو) يقف عند مستوى توجيه رسائل من كل طرف إلى الآخر فقط بدون رد فعل قوي على الأرض، إذ من المتوقع أن ترفض دول أوروبية أي قرار أمريكي بتوجيه ضربة نوعية إلى عمق روسيا، استنادًا إلى المادة الخامسة من ميثاق الناتو، كما ستتسق مواقف عدة دول أوروبية مع موقف الرئيس الامريكي المنتخب دونالد ترامب إزاء الموقف التفاوضي مع موسكو لوقف الحرب التي أنهكت الاقتصاد الأوروبي بشكل كبير.

في المجمل .. يمكن اعتبار أن تغيير روسيا لعقيدتها النووية يمثل بعدًا جديدًا لحالة الصراع بين روسيا والناتو وهو بعد لا يمكن تجاهله، إلا أن الأسلحة النووية دائمًا ما تمثل ورقة ضغط بين القوى المتحاربة ولا تتطور إلى استخدام جدي في إطار الحرب، مع بروز أصوات أوروبية لوقف تلك الحرب ورغبة أمريكية لوقف الصراع على أساس تفاوضي.

لكن في كل الأحوال يعكس القرار قوة روسية في الميدان وضعفًا أوروبيًا، ورغبة من إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته في توريط الرئيس الجديد في حربًا أكبر من إمكانيات حلف الناتو من جهة من رغبة الإدارة الأمريكية الجديدة من جهة أخرى، وهو ما يشير إلى ضرورة التوصل إلى اتفاق يفضي إلى آليات جديدة تجنب القوى الكبرى سوء التقدير الاستراتيجي أو العسكري الذي قد يؤزم الأوضاع في الميدان ويؤثر على الاقتصاد العالمي، خاصة وأن اندلاع حرب بمثل تلك المقومات يمكنها أن تؤثر على حركة الاقتصاد العالمي وتوقف سلاسل إمداد الطاقة والغذاء إلى أوروبا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *