لماذا تُنسى هجرة الأوروبيين الفقراء في السياسة والإعلام؟

د. جمال حسين
في كل مرة يُذكر فيها مصطلح “الهجرة” في أوروبا، تتجه الكاميرات إلى البحر المتوسط، إلى القوارب الغارقة، إلى جثث الأطفال على الشواطئ، إلى الجدران الحدودية والأسلاك الشائكة، وإلى خطابات انتخابية تصرخ وتُحمّل اللاجئين مسؤولية كل الأزمات: الفقر، البطالة، الجريمة، بل وحتى تآكل “الهوية الأوروبية”.
لكن… ماذا عن الملايين من الأوروبيين أنفسهم؟
أولئك الذين غادروا قراهم في رومانيا وبلغاريا وبولندا ولاتفيا، دون لافتات، دون قوارب، دون طلبات لجوء، ودون أن تُسلَّط عليهم عدسة أو يُخصَّص لهم عنوان رئيسي؟
هل هم أقل ألمًا؟ أقل اغترابًا؟ أليسوا أيضًا مهاجرين؟ أليس فقرهم محفزًا للهروب كما تفعل الحرب تمامًا؟
فلماذا لا تُعتبر هجرتهم أزمة؟ ولماذا لا تُناقش مأساتهم؟ ولماذا هذا الصمت، وهذا التجاهل، وهذا الإنكار؟
منذ انضمام دول شرق أوروبا إلى الاتحاد الأوروبي، بدأ نزوح داخلي هائل وغير معلن.
قرى بأكملها تحوّلت إلى مدن أشباح.
الشباب هاجروا إلى ألمانيا، هولندا، بلجيكا، فرنسا… لا بحثًا عن الرفاه، بل هربًا من الفقر واليأس، ولأجل حياة يمكن تحملها.
ومع ذلك، لم تُعامل هذه الموجات كأزمة.
لم تُبْنَ جدران ضدهم، لم تُسنّ قوانين طوارئ لوقفهم، لم تُستنفر الأحزاب أو تُعقد المؤتمرات.
ببساطة: لأنهم أوروبيون.
ولأن هجرتهم قانونية بموجب اتفاقية حرية التنقل داخل الاتحاد الأوروبي، تُمرر بلا ضجيج، وتُستغل بلا مقاومة، وتُغسل يد السياسة منها تمامًا.
لكن القوانين لا تُلغي الألم، ولا تُخفي الفوارق الهائلة بين شرقٍ يُهجَّر وغربٍ يُراكِم.
فمهاجرو الشرق الأوروبي ليسوا مجرد مسافرين في رحلة عمل. إنهم مواطنون يبحثون عن الخلاص، تمامًا كمن عبروا البحر من بنغازي أو حلب أو الخرطوم أو بغداد أو صنعاء.
ورغم ذلك، لا أحد يعترف بمأساتهم.
الأحزاب اليمينية التي تُزمجر ضد اللاجئين، تخرس أمام هذه الهجرة “الداخليّة” الفقيرة.
بل أكثر من ذلك: إنها توظّفها. فالمهاجر الشرقي لا يكلّفهم شيئًا سياسيًا، لا يُحرجهم أمام قواعدهم المتشددة، لا يُثير نقاشات الهوية والدين.
فهو أبيض, أوروبي, ويمكن استخدامه بصمت.
وفي المقابل، يُشيطَن اللاجئ القادم من الجنوب العالمي – حتى لو كان يحمل شهادة جامعية ويتحدث ثلاث لغات – لأنه ببساطة “ليس منّا”.
وإذا انتقلنا من الشعارات إلى الأرقام، فإن الصورة تصبح أكثر وضوحًا… وأكثر إحراجًا.
في عام 2023، سجّل الاتحاد الأوروبي نحو 3.7 مليون مهاجر جديد، بينما بلغ عدد طلبات اللجوء 1.13 مليون فقط.
أي أن اللاجئين لا يُمثّلون أكثر من 30% من إجمالي الوافدين.
في ألمانيا، من أصل 1.2 مليون وافد جديد، كان عدد اللاجئين نحو 352 ألفًا فقط.
في هولندا وبلجيكا، تفيد الإحصاءات بأن أكثر من 70% من القادمين الجدد هم من دول الاتحاد الأوروبي الشرقية.
يصلون بلا لجوء، بلا استجواب، بلا طوابير.
لكن اللافت أكثر من الأرقام، هو الزمن:
اللاجئ ينتظر عامين كاملين في المتوسط قبل أن يُبت في طلبه.
يعيش خلال هذه المدة في معسكرات مؤقتة، يفتقد الاستقرار، محروم من العمل، يتآكله الانتظار، ويتآكله الشك.
بينما يُنجَز ملف المهاجر الأوروبي غالبًا في 3 إلى 6 أشهر، وأحيانًا خلال أسابيع فقط.
مكاتب الهجرة في دول عدة تمر فيها أيام دون أن يُعالج فيها طلب لجوء واحد، بينما تُنجَز يوميًا عشرات الطلبات الأوروبية بسلاسة.
في هذه المفارقة تتجلى المعادلة الأخطر:
لا عدالة بلا مساواة، ولا مساواة في ظل نظام يُقسّم البشر بحسب مكان الولادة، لا الحاجة أو الاستحقاق.
وما يجعل هذا السكوت أكثر قسوة، هو أن المستفيدين منه كُثر:
الغرب الأوروبي بحاجة إلى هذه الأيدي الرخيصة، لتبقى المصانع تعمل، والمزارع تُحصد، ودُور العجزة تُدار.
أما حكومات شرق أوروبا، فتجد في الهجرة صمام أمان، يُفرّغ غضب الشباب نحو الخارج، ويُخفي فشل السياسات الداخلية.
النتيجة؟
نصف أوروبا يُهاجر، والنصف الآخر يستغل… والكل يصمت.
لكن هذا التواطؤ الناعم لن يدوم طويلًا.
فحين يفرغ ملف اللاجئين من فائدته السياسية، وحين تنتهي “حفلة الشيطنة” ضد السوريين والأفغان، سيبدأ التركيز على الفقراء الأوروبيين الشرقيين أنفسهم.
سوف يُقال لهم: “أنتم تأخذون وظائفنا”، “أنتم تُرهقون النظام الصحي”، “أنتم السبب في تدني الخدمات”.
وسينقلب الترحيب الصامت إلى ازدراء معلن حينها، لن يبقى للمهاجر الشرقي سوى اليأس.
وبعده يأتي الانعزال، والاحتجاج، وربما المطالبة بالخروج من الاتحاد نفسه.
ومَن المستفيد؟
أصحاب المصانع. السياسيون الشعبويون، أولئك الذين يسعون لعالم بلا حقوق، بلا نقابات، بلا تمثيل، أما المهاجر، فسيُترك وحيدًا، في الزاوية نفسها التي أُقصي منها اللاجئ ذات يوم.
فرغم أنهم يحملون جوازات أوروبية، إلا أن مهاجري الشرق يُدفعون منهجيًا إلى هامش المجتمع:
إلى التنظيف، والذبح الصناعي، والرعاية المتدنية، والنقل الليلي، والوظائف التي لا يرغب بها أحد.
لا صوت لهم في الإعلام. لا حضور لهم في السياسة.
وحتى حين يُذكرون، فإنما في أخبار الجرائم أو الضغوط على الخدمات، لا في خطابات الكرامة والمساواة.
هل هم مواطنون؟
أم عمال طوارئ بلا هوية؟
أم مجرّد أجساد عابرة، يُستفاد منها ثم تُنسى؟
هذا التهميش سيفتح الباب – إن عاجلًا أو آجلًا – لانقسامات سياسية حقيقية.
وقد نشهد شرقًا أوروبيًا يسعى إلى فك الارتباط، لا نكاية في الوحدة، بل هربًا من الاستغلال المُقَنَّع.
ورجال الأعمال سيهللون لهذا الانفصال، لأنه سيعني عمالًا بلا حقوق، بلا رقابة أوروبية، بلا كلفة سياسية.
في النهاية، هناك قاعدة مرعبة تختصر كل المشهد:
من لا يُرَ… لا يُحمى.
حين تُنسى المعاناة، لا تُعالج.
وحين لا تُذكر الأسماء، تُمحى من الحسابات السياسية.
لكننا نكتب اليوم لا لنُدين، بل لنُضيء، لا لنستدر العاطفة، بل لنستنهض الضمير الأوروبي.
الهجرة الأوروبية-الأوروبية ليست هامشًا على دفتر السياسات، بل هي صُلب التحول الديموغرافي في أوروبا.
الهجرة لا تبدأ من طرابلس أو إدلب أو كابول فقط.
بل تبدأ أيضًا من هاسكوڤو وكرايوفا وفارنا… من قلوب أُطفئ فيها الأمل منذ زمن.
وقد آن الأوان…
أن نراهم كما هم، لا كما يُراد لنا أن نراهم.