المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / غرب يستقبل و شرق ينزف: من يدفع ثمن النزيف الأوروبي؟

غرب يستقبل و شرق ينزف: من يدفع ثمن النزيف الأوروبي؟

غرب يستقبل و شرق ينزف: من يدفع ثمن النزيف الأوروبي؟

نزيف بلا صوت… دماء التنمية تُستنزَف بصمت

في قلب أوروبا، مأساة تتفاقم كل يوم، بلا عناوين رئيسية ولا صور مأساوية تهزّ الضمير العام. إنها مأساة نزيف البشر من الشرق إلى الغرب؛ نزوح جماعي لا تحمله قوارب الموت، بل القطارات السريعة وحافلات الرحلات الليلية.

إنه نزيف يفرغ القرى والمدن الشرقية من شبابها وكفاءاتها، بينما يبني رفاهية الغرب على عرق أيديهم.

أرقام تنطق بالكارثة

6 ملايين عامل شرقي يعملون بشكل دائم في دول أوروبا الغربية.

4 ملايين آخرون يتنقلون سنويًا في هجرات موسمية.

بعض دول مثل رومانيا وبلغاريا فقدت أكثر من 20% من شبابها العامل، ما أدى إلى خسارة تقارب 2% من ناتجها المحلي الإجمالي سنويًا.

40% من الأطباء والممرضين الرومانيين هاجروا إلى ألمانيا وفرنسا وهولندا خلال العقد الأخير، تاركين المستشفيات في أزمة حادة.

في بولندا، واحد من كل خمسة أساتذة جامعيين يفكر جديًا في الرحيل، فيتراجع البحث العلمي ويُفرغ الشرق من عقولٍ كان يمكن أن تقود نهضته.

هذه ليست أرقامًا جافة؛ إنها مدارس بلا معلمين، قرى بلا شباب، ومستشفيات بلا أطباء.

حكايات من النزيف: وجوه بشرية خلف الأرقام

“دائرة بلا نهاية” – قصة أندريه، العامل في قطاع اللوجستيات

أندريه، شاب روماني في الثلاثين من عمره، يعمل في أحد مراكز التوزيع الضخمة في هولندا.

16 ساعة يوميًا يقضيها بين شحن الحاويات وتفريغها، محاطًا بضجيج الرافعات وأزيز الشاحنات. حلمه بسيط: ادخار ما يكفي لشراء منزل صغير في قريته الرومانية، حيث تنتظر زوجته وطفلاه.

لكن الحقيقة قاسية:

نصف دخله يذهب للإيجار،

والثلث الآخر لتحويلات عائلية،

وما تبقى يضيع في مصاريف الحياة اليومية.

بعد خمس سنوات من العمل المتواصل، لم يقترب حلمه خطوة واحدة. يعيش أندريه في غرفة مشتركة مع خمسة آخرين، ينام على سرير حديدي، ويستيقظ كل يوم ليعيد نفس الدوامة: العمل، ثم العمل، ثم العمل.

يقول أندريه:

“أعمل لأعيش، لكن لا أعيش. كلما جمعت شيئًا، ضاع في الالتزامات. أشعر أني مجرد ترس في آلة ضخمة.”

ماريا – الطبيبة التي هجرت مرضاها

ماريا، طبيبة رومانية، تركت عيادتها المكتظة في بوخارست لتعمل في مستشفى ألماني.

كانت ترى في عيون مرضاها هناك ذعرًا من الفراغ الطبي الذي خلّفته. والآن، تعيش في وحدة سكنية صغيرة قرب المستشفى، تمسح دموعها كلما تتذكر والدتها العجوز، التي لم تجد من يرعاها.

بيوتر – الشاب العالق بين حلمين

بيوتر، بولندي في العشرينات، يعمل في مزارع هولندا 12 ساعة يوميًا. يرسل نصف دخله لعائلته في بولندا، بينما يعيش في غرفة مكتظة بلا نوافذ.

“أشعر أني غريب في بلدين: هنا لا أملك حياة، وهناك لم يعد لي مكان.”

الغرب تحت الضغط: مواطنون يدفعون الثمن

تدفق الملايين من المهاجرين الشرقيين، خاصة غير المنتظمين، أحدث ضغطًا هائلًا على البنية التحتية الغربية:

أزمات سكن خانقة: الإيجارات ارتفعت في بعض المدن بأكثر من 30% في خمس سنوات، ليتنافس المواطنون والمهاجرون على شقق محدودة.

اكتظاظ في المدارس والعيادات: القوائم تطول، والخدمات تتدهور، ليدفع المواطن الغربي من الطبقات الدنيا والمتوسطة ثمن هذا الضغط.

اقتصاد ظل متنامٍ: غياب التنظيم في سوق العمل يخلق بيئة للاستغلال والاحتيال، ما يزيد من هشاشة الوافدين والمجتمعات المضيفة على حد سواء.

وفيما يدفع المواطن العادي ثمن الأزمة، تزداد أرباح الشركات الكبرى التي تعتمد على العمالة الرخيصة، لتتسع الهوة بين المستفيدين والمتضررين.

نزيف التنمية في الشرق

كل طبيب يهاجر، كل مهندس يغادر، كل شاب يغترب، يعني:

مزيدًا من تراجع الناتج المحلي الإجمالي،

مزيدًا من تباطؤ البحث العلمي والابتكار،

ومزيدًا من تعلق الشرق بمساعدات الغرب، بدل بناء تنمية مستدامة.

هل الوحدة الأوروبية في خطر؟

كان الاتحاد الأوروبي مشروعًا لوحدة الشعوب وتكامل التنمية. لكن الواقع يرسم صورة مختلفة:

شرق يستنزف طاقاته،

غرب يئن تحت ضغط خدماته،

وطبقة غنية تتغذى على النزيف دون أن تمسه العواقب.

هذه المعادلة تهدد مشروع الوحدة الأوروبية نفسه، إذ يفقد المواطنون الثقة في أن الاتحاد يخدمهم جميعًا، لتعلو أصوات الانفصال وتضعف فكرة التكامل التي قامت عليها أوروبا.

خاتمة: إنذار لضمير القارة

النزيف البشري الذي يفرغ الشرق ويضغط على الغرب ليس مجرد قضية اقتصادية، بل مأساة إنسانية تهدد مستقبل أوروبا بأكملها.

الهجرة ليست قوارب في المتوسط فقط. الهجرة تبدأ من قرى رومانية خاوية، من مدارس بلا معلمين في كيشيناو، ومن مستشفيات بلا أطباء في صوفيا.

إنها حكاية ملايين الأندريه والبيوتر والماريا الذين صاروا عالقين بين حلم ضائع وواقع قاسٍ.

وقد آن الأوان أن ترى أوروبا هذا النزيف كما هو: جرحًا في جسدها الواحد، يهددها جميعًا إن تُرك بلا علاج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *