رسالة الى خيرت فيلدرز!

د.جمال حسين
لا تسمحوا للكراهية أن تسرق أجمل ما في هولندا
رسالتي إليكم أيها الهولنديون الأحباء…
لم أعشق هولندا فقط لطبيعتها الساحرة، ولا لنظامها الديمقراطي المتين، ولا لحريتها الفريدة التي يحلم بها الملايين… بل عشقتها لأجلكم أنتم، الناس الذين يعيشون على هذه الأرض. عشقتها لأجل إنسانيتكم، لودكم الذي لا يُشترى، لابتساماتكم التي تشع دفئًا، ولقلوبكم التي تتسع للآخر، أياً كان لونه أو اسمه أو دينه.
جئت من بلدٍ لم يكن غنياً، ولا يعرف الرفاهية، لكنه كان وطنًا… كنا نعيش فيه بكرامة. لدينا بيوت، وأسر، ومجتمع، وأمل في الغد. لم نفقد كل شيء فجأة، بل بدأ الانهيار خلسة، كما تتسلل النار في الهشيم، وكما ينتشر السرطان في الجسد دون أن يشعر المريض بألمه في البداية.
بدأ كل شيء بالكراهية.
كراهية صامتة، تسربت من كلمات خبيثة، من دعوات صغيرة لم نأخذها على محمل الجد. “لماذا لا نكره أولئك المختلفين عنا؟” بدأنا باليهود، كانوا يعيشون بيننا منذ آلاف السنين، يصنعون الحلي الفضية الجميلة التي نحرص على اقتنائها. كانت متقنة وخلابة ومضمونة. لكن بدأت الأصوات تقول: لا، لا تشتروا منهم، إنهم ليسوا منّا.
لم ننتبه. قلنا: دعوا من يكرههم، لا يعنينا اضطهادهم، ما المشكلة؟ إنهم أقلية. لكن الكراهية لا تبقى صغيرة.
كبرت، وتوسعت، وتبدلت أهدافها. صارت تُطلق على من لا يصلي مثلنا، أو من ينتمي لمحافظةٍ معينة، أو من لا يلبس مثلنا، أو من عائلته غنية أو فقيرة، أو من يريد أن يستقل أو يدعو للحرية… أو من يبدو مختلفًا ولو قليلاً.
وفجأة، وجدنا أنفسنا نكره جيراننا، وأقاربنا، وحتى أنفسنا.
وخسرنا كل شيء.
حينها فهمت: الكراهية تسرقك من الداخل. تجردك من إنسانيتك، تفرغك من الرحمة، تجعلك آلة تدمير لا هدف لها إلا أن تؤذي. وعندها لم يعد البقاء ممكناً… إلا إنقاذ أطفالي من هذا الجنون.
واليوم، أرى نفس البذور تُزرع من جديد، ولكن في أرضٍ أحببتها، في هولندا.
تأملت كثيرًا في موقف وزيرة الهجرة حين رفضت منح أوسمة التقدير لموظفي الـ COA، فقط لأنهم خدموا لاجئين مثلي. هؤلاء الموظفون هولنديون، خدموا ضمن مؤسسة حكومية هولندية، ومع ذلك تم التنكر لجهودهم لأنهم قدموا العون “لآخرين” يختلفون عنهم. لا أجد تفسيرًا إنسانيًا لهذا القرار. لم يكن تقديرهم مكافأة مالية، بل مجرد لفتة شكر… لكنها رُفضت.
أفهم أن الهجرة موضوع حساس. أفهم أن هناك تحديات اقتصادية واجتماعية، وأن النقاش مشروع. لكن حين يبدأ تسييس المواقف الإنسانية، وتُستخدم الكراهية لكسب أصوات، هنا يبدأ الخطر.
ما يقلقني بشدة هو تصاعد الخطاب اليميني المتطرف، الذي أصبح يربط كل مشكلة بالمهاجر، ويُحمّل الغريب مسؤولية كل ما هو سلبي. خطاب يبني شعبيته على الخوف، لا على الحقائق. خطاب لا يُفرّق بين طالب لجوء هارب من الحرب، ومجرم يختبئ خلف عباءة الهجرة.
التوجهات اليمينية ليست مجرد رأي سياسي، بل أصبحت في بعض الأحيان منصة لتغذية مشاعر الاستعلاء العرقي، ولتبرير الإقصاء والتمييز، بل وللتحريض أحيانًا. وإذا لم ننتبه، فإن هذه التوجهات يمكن أن تنقلب حتى على أصحابها، حين يبدأ “النقاء” المزعوم في البحث عن ضحايا جدد.
إنني أؤمن أن الشعب الهولندي أرقى من أن يُخدع بخطاب شعبوي يزرع الشك والخوف. أنتم من كتب في المادة الأولى من دستوركم: “يُعامَل جميع الأشخاص الموجودين في هولندا على قدم المساواة. لا يجوز التمييز على أساس الدين أو المعتقد أو الرأي أو العرق أو الجنس أو أي سبب آخر.” هذه ليست مجرد كلمات، إنها هوية وطنية.
أرجوكم… لا تسمحوا للسياسة أن تقتل الأخلاق. لا تسمحوا للإعلام أن يشوه الواقع، ولا تسمحوا للأصوات العالية أن تُخرس صوت الضمير.
اليوم، تُوجه الكراهية نحو اللاجئين… وغداً نحو من يتعامل معهم، ومن يشبههم، ومن يساعدهم، ومن يدافع عنهم… ثم نحو من لا يتطابق مع القالب المثالي لأي سبب. وفي النهاية، تأكل هذه الكراهية كل شيء، حتى روح المجتمع نفسه.
أنا لا أكتب هذه الكلمات لأحذّر فقط، بل لأطلب منكم، أيها العقلاء، أن ترفعوا أصواتكم. أن تقفوا في وجه الكراهية، قبل أن تتجذر وتُدمّر ما بناه أجدادكم من حضارة وإنسانية.
ربما أكون غريباً، وربما تظنون أنني أبالغ… لكنني أكتب لأنني أحبكم. وأؤمن بكم.
أكتب لأنني أريد لهولندا أن تبقى منارة، لا أن تُطفأ شعلتها.
أكتب لأنني أريد لأطفالي أن ينشأوا هنا وهم يتعلمون الحب لا الحقد، الرحمة لا القسوة، الاحترام لا الإقصاء.
دعونا لا نُكرر الخطأ. دعونا لا نسمح للكراهية أن تسرق أجمل ما في هولندا