داعش كذريعة استراتيجية: قراءة في كيفية إعادة أميركا ترتيب دورها في سورية


د. أيمن خالد*
حين أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب قبل قليل أن بلاده تقوم بضرب مواقع تنظيم داعش بقوة في سورية، وحين تزامن ذلك مع تقارير ميدانية عن إطلاق التحالف الدولي صواريخ من قاعدة بلدة الشدادي باتجاه محافظة الرقة، وسماع انفجارات في محافظة دير الزور، بدا المشهد للوهلة الأولى امتدادًا طبيعيًا لما اعتادت عليه المنطقة منذ أكثر من عقد: ضربات جوية، بيانات عسكرية مقتضبة، وعناوين عريضة عن “مكافحة الإرهاب”. غير أن القراءة المتأنية للسياق، وللغة المستخدمة، وللتوقيت، تكشف أن ما يجري يتجاوز منطق الرد الأمني المباشر، ويدخل في إطار أوسع يتعلق بإعادة ضبط ميزان الردع، وترتيب قسمة الأدوار الإقليمية في مرحلة شديدة السيولة.
الضربات الأميركية الأخيرة لا تحمل سمات حرب شاملة، ولا توحي بعودة إلى نمط الحملات الكبرى التي شهدتها سورية والعراق في ذروة صعود تنظيم الدولة. فلا حديث عن عمليات برية واسعة، ولا مؤشرات على تغيير جذري في قواعد الاشتباك، ولا تعبئة سياسية داخلية أميركية تمهّد لانخراط طويل الأمد. ما نشهده أقرب إلى فعل انتقامي محسوب، أو إلى استخدام محدود للقوة، يُراد منه تثبيت خطوط حمراء أكثر مما يُراد به حسم المعركة مع التنظيمات المتطرفة.
لكن هذا “الانتقام المحسوب” لا يمكن فصله عن لحظة إقليمية دقيقة. فأحداث “تدمر”، وما رافقها من نشاط متجدد لخلايا تنظيم الدولة في البادية السورية، أعادت فتح ملف طالما حاولت القوى الدولية إبقاءه تحت السيطرة: ملف الفراغات الأمنية، وحدود القدرة المحلية على ضبطها، وخطر تحوّل الجغرافيا الممتدة بين شرق سورية وغرب العراق إلى مسرح مفتوح لإعادة إنتاج العنف. في مثل هذه اللحظات، تميل واشنطن إلى تذكير الجميع بأنها ما زالت الطرف القادر على التدخل السريع، وعلى توجيه ضربات دقيقة، وعلى التحكم بإيقاع التصعيد دون الانزلاق إلى فوضى شاملة.
غير أن داعش، على أهميته الأمنية، ليس وحده في قلب الحسابات الأميركية. فالتنظيم، في الخطاب الاستراتيجي الأميركي، لم يعد مجرد عدو يُراد القضاء عليه بقدر ما أصبح عاملًا يُدار حضوره وحدود نشاطه بما يخدم توازنات أوسع. فبقاء التهديد ضمن مستوى معيّن يتيح لواشنطن الاستمرار في تبرير وجودها العسكري، ويمنحها هامش حركة سياسيًا وأمنيًا في منطقة تتشابك فيها المصالح الدولية والإقليمية.
هنا يبرز شمال شرق سورية (الجزيرة السورية)، لا بوصفه ساحة مواجهة مع داعش فقط، بل بوصفه عقدة توازن معقّدة. هذه المنطقة، التي تضم قواعد أميركية، وتخضع لنفوذ قوات سورية الديمقراطية(ميليشيا قسد)، وتشكل موضع اهتمام تركي، وتلامس الأمن القومي العراقي، أصبحت نقطة ارتكاز لأي إعادة ترتيب إقليمي محتملة. وفي هذا السياق، فإن إطلاق الصواريخ من قاعدة الشدادي باتجاه الرقة، وامتداد الضربات نحو دير الزور، يحمل رسالة تتجاوز الجغرافيا الضيقة: الرسالة أن المجال السوري الشرقي ما زال تحت رقابة أميركية مباشرة، وأن أي محاولة لإعادة صياغة موازين القوة فيه دون التنسيق مع واشنطن ستظل محفوفة بالمخاطر.
قوات سوريا الديمقراطية ( قسد)، رغم غيابها عن البيانات الرسمية، حاضرة في خلفية المشهد. فهذه القوات تواجه منذ فترة ضغوطًا متراكمة، سياسية وأمنية ومجتمعية، تتراوح بين مطالب إعادة الهيكلة، ودعوات التفكيك أو الدمج، وضغوط إقليمية لا تخفى. وفي مثل هذا المناخ، يصبح خطر داعش عنصر حماية غير مباشر لوضع “قسد”، لا بوصفها مشروعًا سياسيًا، بل بوصفها أداة ضبط ميداني لا تملك واشنطن بديلًا جاهزًا عنها في المدى المنظور. إعادة تفعيل خطاب مكافحة التنظيم تعني عمليًا تأجيل أي حديث جدي عن إنهاء هذا الدور أو تجاوزه.
لكن المشهد لا يكتمل من دون إدخال اللاعبين الآخرين في المعادلة. فتركيا تراقب بحساسية أي تحرك أميركي شرق الفرات، وسورية تسعى إلى استعادة دور الدولة في مناطق خرجت عن سيطرتها، والعراق معنيّ مباشرة بمنع انتقال التهديد عبر الحدود، وبضبط أمنه الداخلي في مرحلة سياسية حساسة. في هذا التقاطع، تبدو الضربات الأميركية وكأنها محاولة لإعادة ترتيب “قسمة الأدوار” قبل أن تُفرض وقائع جديدة على الأرض. واشنطن، هنا، لا تعلن رفضها لتغيرات محتملة، لكنها تريد أن تتم هذه التغيرات وفق إيقاعها وشروطها.
اللافت في الخطاب الأميركي أنه يحرص على الفصل بين “الانتقام” و”الحرب”. فالتأكيد على أن الضربات ردٌّ على أحداث محددة، وليس إعلانًا لحملة مفتوحة، يعكس إدراكًا عميقًا لكلفة التورط طويل الأمد في بيئة إقليمية شديدة التعقيد. لكن هذا الفصل لا يعني غياب الهدف الاستراتيجي، بل يدل على اعتماد مقاربة “الإدارة لا الإنهاء”، حيث تُستخدم القوة كأداة ضبط وتوجيه، لا كوسيلة حسم نهائي.
في هذا الإطار، يمكن قراءة الضربات الأخيرة بوصفها جزءًا من عملية إعادة ضبط ميزان الردع في المنطقة، وليس مجرد فصل جديد في الحرب على الإرهاب. ردع موجّه إلى التنظيمات المتطرفة، وردع غير مباشر إلى القوى الإقليمية، ورسالة طمأنة للحلفاء، مفادها أن واشنطن، رغم تقليص انخراطها المباشر، لم تتخلَّ عن دورها كمنظّم أساسي للتوازن.
الخلاصة أن ما يجري في سورية اليوم لا يشير إلى نهاية مرحلة ولا إلى بدايتها الكاملة، بل إلى مرحلة انتقالية تُستخدم فيها الأدوات العسكرية المحدودة لإعادة رسم حدود الحركة، ومنع الانفلات، وتأجيل التسويات الكبرى ريثما تنضج شروطها. وفي هذا المشهد، يبقى داعش خطرًا حقيقيًا، لكنه أيضًا جزء من معادلة أوسع تُدار بعناية، حيث تختلط الضرورات الأمنية بالحسابات السياسية، ويُعاد تعريف الردع لا بوصفه تفوقًا مطلقًا، بل قدرة مستمرة على التدخل في اللحظة المناسبة.
*إعلامي عراقي و باحث في الشؤون السياسية والقانون الدولي.




