خيارات أوروبا في التعامل مع ترامب إزاء قضايا التكتل

تعيش دول أوروبا على وقع تصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب الصادمة في كثير منها إزاء دول التكتل (الاتحاد الأوروبي)، والتي من شأنها – في حال نفذ ترامب تصريحاته التي تصل إلى حد التهديد – أن تضر بالاقتصاد الأوروبي المثقل بالكثير من الأزمات التي ضربته منذ أكثر من عامين بسبب قضيتي تدفق اللاجئين إلى دول أوروبا، بالإضافة إلى أزمة الحرب الروسية الأوكرانية التي كبدت الاقتصاد الأوروبي خسائر فادحة، وهو ما جعل دول التكتل في حالة تحفز شديد لما بعد تنصيب ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية.
ويعزز ذلك ما كشفته وثيقة دبلوماسية مسربة للسفير الألماني في واشنطن أندرياس ميكايليس، والتي تضمنت انتقادات ومخاوف ألمانية من تهديدات ترامب المستمرة لدول أوروبا، حيث قال ميكايليس إن هناك مخاوف مما اعتبره “خططًا انتقامية” للرئيس الأمريكي الجديد تجاه أوروبا، وتصرفات قد تقوض الديمقراطية في الولاات المتحدة الأمريكية، كما دعا الرجل إلى ضرورة التعامل بحنكة مع تهديدات ترامب وعلى أوروبا أن تكون مستعدة لها، خاصة مع تركز السلطة بيد الرئيس على حساب الكونجرس والولايات الفيدرالية، وهو ما اعتبره تهديدًا للديمقراطية، وكأنه يخاطب الشعب الأمريكي بعدم قبول سياسات ترامب تجاه الداخل والخارج.
وتؤرق تصريحات أو تهديدات ترامب لأوروبا دول التكتل التي تتجهز للتعامل معها، والتي من أبرزها:
- فرض الرسوم الجمركية: وهو التهديد الأبرز الذي شمله حديث ترامب ضد دول أوروبا بجانب الصين وكندا، لكن فيما يتعلق بأوروبا فإن ترامب يسعى إلى زيادة استيراد دول أوروبا من المنتجات الأمريكية أو زيادة مشتريات أوروبا من النفط والغاز الأمريكي، في محاولة منه لإصلاح ما أسماه “خلل في الميزان التجاري بين الجانبين”، وإلا سيفرض المزيد من الرسوم الجمركية.
- زيادة إنفاق دول الناتو: وهو أحد أبرز التهديدات التي أطلقها ترامب والتي تضمنت تهديدًا أخر مبطنًا بانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من حلف شمال الأطلسي “الناتو”، إذا لم تقم دول التحالف بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة على حدة، وهو ما قد يؤثر بشكل كبير على موازنات تلك الدول التي ترزح تحت وطأة التضخم الذي بدأت بوادره مع جائحة كوفيد عام 2019 واستمر بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ومع أزمات الشرق الأوسط التي جلبت اللاجئين إلى القارة العجوز.
- مواجهة تدفق اللاجئين: وهي الفكرة التي تتفق مع المزاج العام للكثير من دول أوروبا وحكومات اليمين المتطرف الصاعدة في القارة العجوز، وعلى الرغم من ذلك فإن دول أوروبا التي بصدد تدشين ميثاق خاص ينظم حركة اللاجئين وطبيعة توزيعهم على دول أوروبا والترتيبات الأمنية الخاصة بتلك المسألة، إلا أن أفكار ترامب تجاه اللاجئين تختلف في سياقها عن ما جاء في ميثاق أوروبا، حيث يرفض ترامب رفضًا قاطعًا فكرة دخول اللاجئين إلى بلاده من الأساس سواء بضوابط أو من غير ضوابط، وهو ما جعله يفرض رسومًا جمركية أخرى على المكسيك وكندا بصفتهما الدولتان الطاردتان للاجئين باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، وقد دعم ذلك الرأي قرار ترامب بإطلاق سراح إنريكي تاريو وستيوارت رودس الزعيمين السابقين لمجموعة Proud Boys ومؤسسي مجموعة Oath Keepers من السجن، وهما من أبرز زعماء الجماعات اليمينية المتطرفة الداعمة لأفكار وقف تدفق اللاجئين إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
- الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ: وقع ترامب يوم تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة عدة قرارات تنفيذية كان أبرزها انسحاب بلاده من اتفاقية باريس للمناخ، والتي تفرض على الولايات المتحدة تمويل ميزانية مؤتمر الأمم المتحدة الإطاري بشأن تغير المناخ بنسبة 20% وهو القرار الذي يعد بمثابة أكبر تحدٍ لأوروبا ما يدفعها لتحمل العبء الأكبر في جهود تحسين المناخ، بالإضافة إلى أن ذلك القرار قد يسهل من هروب المصانع الأوروبية إلى الولايات المتحدة الأمريكية للفكاك من الضوابط والقيود الصارمة التي وضعتها أوروبا على تلك المصانع بناء على ضوابط حماية البيئة.
رد الفعل الأوروبي:
لاشك أن أوروبا في حالة ارتباك كامل بسبب تلك التصريحات التي تتصف بـ”العدائية” تجاه الحلفاء الأبرز للولايات المتحدة الأمريكية، خاصة وأن دول أوروبا طالما اعتمدت على الحماية العسكرية الأمريكية لعقود مضت، فضلًا عن تمكن دول القارة العجوز من شراء النفط الروسي بأسعار زهيدة قبيل بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، فضلًا عن المنتجات الصينية الرخيصة الثمن، فيما جاءت تهديدات ترامب بفرض رسوم جمركية على الجميع بمثابة الضربة القاضية، التي قد تتسبب في أزمة طاحنة للجميع، والتي قد تجبر أوروبا إلى سلك طرق معينة على النحو التالي:
أولًا: قد تجد أوروبا نفسها مضطرة إلى التفاوض مع ترامب للفكاك من تهديداته، فعلى الرغم من تأكيد المفوض الأوروبي للشؤون الاقتصادية فالديس دومبروفسكيس بأن الاتحاد سيدافع عن مصالحه، إلا أن ذلك التصريح يقابله تصريح أخر أقل حدة، حين أكدت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية خلال مشاركتها في منتدى دافوس الاقتصادي أن الاتحاد الأوروبي سيتعامل بـ”براغماتية” مع واشنطن، وهو ما يشير إلى احتمالية أن ينخرط الاتحاد مع ترامب في مفاوضات جادة للوصول إلى صيغة توافقية بين الجانبين، إلا أنه على الرغم من ذلك فإن أوروبا قد ترضخ لبعض التعهدات التي قد ترضي ترامب.
ثانيًا: يرغب ترامب في مخاطبة دول حلف شمال الأطلسي “الناتو” برفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، يعود بالنفع على الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، إذ أن ذلك القرار يعزز من مشتريات دول أوروبا من السلاح الأمريكي، باعتبار الولايات المتحدة أبرز القوى المنتجة للسلاح عالميًا والمنضوية تحت راية “الناتو”، وهو ما قد يجبر دول أوروبا على الانخراط في مفاوضات تتعلق بنسبة الإنفاق الدفاعي لتصل إلى 3 أو 3.5 % بحد أقصى أو وقف زيادة الإنفاق الدفاعي إذا نجح ترامب في التفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإيقاف الحرب الروسية الأوكرانية التي تسببت في أزمة اقتصادية لأوروبا وكذلك أزمة تتعلق بإهدار المخزون العسكري دول أوروبا وحلف الناتو، خاصة وأن الرسوم الجمركية التي من المتوقع فرضها ستكون أقل بكثير من التمويل العسكري المقدم من أوروبا إلى أوكرانيا.
ثالثًا: تعول أوروبا على عدم قدرة ترامب على تحقيق تهديداته، استنادًا إلى أنه سبق وأن هدد بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي “الناتو” خلال ولايته الأولى ولم يفعل أو ينفذ تهديداته، وهو ما يشير إلى أن هناك سيناريو أوروبي للتعامل باستخفاف مع تهديداته المتكررة، خاصة وأن بعض زعماء أوروبا اعتبروا أن ترامب لا تتطابق أقواله مع أفعاله في كثير من الأحيان.
خاتمة
يتضح من تصريحات ترامب أنه وضع أوروبا “حلفاءه” في سلة واحدة مع الصين وروسيا “أعداءه”، وهو ما يضع أوروبا في أزمة كبيرة، إلا أن الأزمة تكمن في حالة الانقسام السياسي في أوروبا تصعب من فرص وجود حكومات قادرة على مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يجعل الوضع وكأن التفاوض يجري بقوة 2 ضد 1 إذ سيتحالف ترامب مع القوى اليمينية المتطرفة في أوروبا في مواجهة الحكومات الأوروبية المحسوبة على التيارات المحافظة واليسارية، خاصة وأن ترامب يدعم دول شرق أوروبا ضد السلطة المركزية الأوروبية في بروكسل.
لن تستطيع دول أوروبا التوجه شرقًا تجاه الصين وروسيا ضد الولايات المتحدة الأمريكية لأن ذلك سيخلق حالة عداء واضح بين أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن أوروبا قد تعتمد على شراء الغاز والنفط الصخري الأمريكي من واشنطن كتعويض عن توقف إمدادات الغاز الروسي بفعل الحرب الأوكرانية، علاوة على أن ذلك سيحقق طموح ترامب من أوروبا، خاصة وأنه حتى لو توقفت الحرب الروسية على أوكرانيا فإن إمدادات النفط الروسي لأوروبا لن تكون في معدلاتها الطبيعية، وبالتالي فإن أوروبا ليس لديها الكثير من الخيارات أمام طموحات ترامب التوسعية على حساب الجميع.