جدلية عودة السوريين من أوروبا: بين الحنين للوطن والمستقبل المجهول

زارني جاري في زيارته الشهرية المعتادة لتقديم نصائح حول زراعة حديقة منزلي، لكنه فاجأني بسؤال غير مألوف: “هل ستعود إلى بلدك؟”. كان لوقع هذا السؤال المفاجئ أثر عميق في نفسي، فقد صمت للحظات للتفكير في الرد المناسب. لم يكن من عادته الخوض في مواضيع كهذه؛ إذ كانت أحاديثنا تتركز غالبًا حول الزراعة والاختلافات المناخية بين بلادنا وأوروبا. أخيرًا حسمت أمري وأجبت ب “لا” مجردة، دون تفسير. وعندما سألته عن سبب طرحه للسؤال، أجاب بأنه شاهد في التلفزيون احتفالات للسوريين في أوروبا بسقوط نظام الأسد، وسمع عن رغبة البعض في العودة إلى الوطن لإعادة بنائه بعد سنوات الحرب.
هذا الحوار دفعني للتفكير في جدلية عودة اللاجئين السوريين لوطنهم، خاصة مع التغيرات السياسية والاجتماعية الأخيرة. كنت قد توقفت عن متابعة الأخبار منذ سنوات هجرتي الأولى، لكنني لاحظت في الآونة الأخيرة تزايد الحديث عن هذا الموضوع. رأيت منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تُقدم نصائح بتجنب الإعلام والتريث في قرار العودة، إلى جانب إعلانات تروج لشراء الأثاث أو استئجار المنازل ممن يخططون للعودة إلى سوريا. هذه الإعلانات أثارت ردود فعل متباينة؛ بين تعليقات جارحة وأخرى واقعية رافضة، بينما استجاب البعض ونشر فعليًا رغبته في بيع أثاثه.
من جهة أخرى، بدأت بعض الدول الأوروبية اتخاذ خطوات ملموسة تجاه اللاجئين السوريين، إذ أوقفت بعض الدول النظر في ملفات اللجوء، سواء بشكل نهائي أو مؤقت. كما طرحت النمسا مقترحات مثل توفير تذاكر طيران ومبلغ مالي يصل إلى ألف يورو للراغبين في العودة. هذه الدعوات لم تقتصر على اللاجئين فقط، بل شملت أيضًا السوريين الحاصلين على الجنسية الأوروبية، مع انتشار شائعات عن مزايا مادية مغلوطة، مثل استمرار المساعدات الحكومية حتى بعد العودة.
على الجانب الآخر، صرّح المستشار الألماني، الذي ينتمي لتيار اليمين المعتدل، بأن ألمانيا لن تفرط بالسوريين، خصوصًا أولئك الذين اندمجوا في المجتمع ويتحدثون اللغة الألمانية ولديهم وظائف. كما سلطت تقارير صحفية الضوء على الفجوة الاقتصادية التي قد تنتج عن عودة السوريين إلى وطنهم، خاصة في القطاع الصحي، حيث يعمل حوالي ستة آلاف طبيب سوري في ألمانيا.
عمليًا، يفكر اللاجئون ألف مرة قبل اتخاذ قرار العودة. فقد عانى الكثير منهم للوصول إلى أوروبا، وغامروا بحياتهم من أجل مستقبل أفضل. كما استثمروا سنوات من عمرهم لتعلم اللغة، وتعلم مهن جديدة، وتأسيس حياة مستقرة. في المتوسط، يستغرق الأمر أربع إلى خمس سنوات لتحقيق ذلك، وهي فترة ليست قصيرة للتفريط فيها والمغامرة بالعودة إلى المجهول.
إضافة إلى ذلك، فإن الواقع السياسي الجديد في سوريا لا يقدم حلولًا جذابة. فالنظام الحالي، الذي أزاح نظام الأسد عسكريًا، لم يكن خيارًا شعبيًا، بل هو فصيل مدعوم من دول إقليمية ودولية تسنده عسكريًا وسياسيًا. يبدو أن القبول الأوروبي السريع بهذا النظام الجديد يرتبط برغبة في السيطرة على أزمة اللاجئين التي أطاحت بعدد من الحكومات الأوروبية وأصبحت على رأس أولويات الأحزاب الحاكمة.
مع ذلك، لا يمكن تجاهل الظلم الذي تعرض له السوريون على مدى عقود من حكم عائلة الأسد، ولا القمع الوحشي الذي تعرض له الشعب. هذا القمع جعل العديد من السوريين مستعدين لقبول أي نظام يعيد الاعتبار لوطنهم وينقذهم من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي المستمر.
لكن الواقع يشير إلى أن من اختار أوروبا بعد سنوات من الضياع لن يعود بسهولة إلى المجهول. ربما يعود البعض لزيارة الأقارب، أو لتناول الشاورما من الميدان، أو تدخين النرجيلة مع الأصدقاء لبضعة أيام، لكن الاستقرار خيار معقد. العودة لن تحدث بين ليلة وضحاها، ولن تخضع لعواطف الفرحة بالانتصار. فقد تعلم الجميع درسًا قاسيًا من نشوة ثورات الربيع العربي، والتي انتهت بواقع مأساوي. لذا، فإن العودة لن تكون إلا بعد تحقيق استقرار حقيقي، قائم على قواعد ديمقراطية تضمن حقوق الجميع، أفرادًا وأقليات، في ظل دستور شامل يعيد بناء الهوية الوطنية على أسس متينة.
و لعل كلمة مطران ابرشية الروم الارثوذكس في طرطوس تلخص المطلوب في الدستور فقد قال اننا موجودين في كل ركن بسوريا ووجودنا لم يكن اليوم او امس وانما علي ضمن التاريخ وعندما نقول نحن وانتم نريد ان نحذف الواو لنكون نحن انتم .
في النهاية، يبقى خيار العودة قرارًا شخصيًا يعكس تعقيدات الواقع بين الحنين للوطن والمخاوف من المستقبل المجهول.