تداعيات إغلاق الحدود الأوروبية

اتخذت دولة ألمانيا الاتحادية قرارًا من شأنه أن يغير سياسات دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة بشأن اللاجئين، واتخاذ تدابير أكثر صرامة حيال تدفق المهاجرين عبر الحدود، حيث يتمثل ذلك القرار في فرض ضوابط حدودية مع الدول التسع المجاورة لها لوقف المهاجرين غير الشرعيين، إذ من المقرر أن تشمل الضوابط الألمانية الحدود مع فرنسا ولوكسمبورغ وهولندا وبلجيكا والدنمارك.
ومن أجل ألا تلقى ألمانيا معارضة تذكر من دول الاتحاد أقرت أن الضوابط الجديدة لم تطبقها بشكل أحادي بل بالتنسيق مع بعض دول الاتحاد الأوروبي، إذ أكد بيان وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فايزر، إن الخطوة تأتي في إطار “القانون الوطني والأوروبي وتعكس عملاً منسقاً مع الاتحاد الأوروبي”، وهو ما يشير إلى تنسيق ألماني مع بعض دول أوروبا حيال هذا القرار، والذي قد يستتبعه اتخاذ دولًا أوروبية لقرارات مشابهة بهدف وقف تدفق اللاجئين عبر حدود أوروبا.
محددات القرار الألماني
اعتمدت ألمانيا القرار بناءً على ضوابط محددة من شأنها أن تأتي متناسبة مع سياسات الاتحاد الأوروبي الجديدة بعد صعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأخيرة، وجاءت أبرز تلك الضوابط على النحو التالي:
- القرار تم بناءً على توافق بشأن تسيير دوريات أمنية مشتركة مع الدول الأوروبية المجاورة، ومراكز الشرطة الحدودية.
- القرار يأتي اتساقًا مع قرار سابق بفرض إجراءات أمنية على الحدود مع كلًا من بولندا وتشيكيا والنمسا وسويسرا.
- بذلك تكون ألمانيا فرضت طوقًا أمنيًا عبر حدودها البرية مع الدول التسع التي تحيط بها، إذ نجحت في تسجيل 53 ألفاً و410 حالة دخول غير شرعية خلال الشهور التسعة الأولى من العام الجاري، وأعادت الشرطة الألمانية منهم حوالي 28 ألفاً و321 شخصاً من حيث جاؤوا، طبقًا لتقديرات ذكرتها وكالة الأنباء الألمانية وصحيفة «بيلد آم زونتاج» الألمانية.
- أبلغت ألمانيا المفوضية الأوروبية بقراراتها ما أضفى طابعًا شرعيًا على قرار برلين، والذي يتسق في شكله ومضمونه مع ضوابط الاتحاد الأوروبي لمنع تدفق اللاجئين إلى أراضي تكتل بروكسل.
- استندت ألمانيا في قرارها على حادثين منفصلين وقع أولهما في شهر أغسطس الماضي، بعدما أقدم طالب لجوء سوري الجنسية على الهجوم بسكين على 3 أشخاص في مدينة زولينغن ما تسبب في مقتلهم جميعًا، وهو الحادث الذي تبناه تنظيم “داعش الإرهابي”، أما الحادث الثاني فوقع في شهر يونيو الماضي، حينما أقدم مهاجر أفغاني على قتل ضابط شرطة ألماني وإصابة أربعة آخرين.
- القرار جاء متوافقًا مع بعض التشريعات التي أقرها البرلمان الأوروبي بشأن الحد من الهجرة وتدفق اللاجئين، إذ حظي مشروع قانون قدم إلى الاتحاد بموافقة أغلبية مؤهلة تتمثل في 55% من الدول الأعضاء التي تمثّل 65% على الأقل من سكان الاتحاد الأوروبيي، إذ تشدد حزمة التشريعات المرتقب أن تدخل حيز التنفيذ في عام 2026 الإجراءات الأمنية عند حدود دول الاتحاد وتجبر كل الدول الأعضاء على تقاسم المسؤولية حيال أزمة اللاجئين.
وانطلاقُا من تلك المحددات فإنه من الصعب على دول أوروبا أن تعارض قرار ألمانيا بشأن تشديد الضوابط الأمنية على حدودها مادامت تلك الضوابط تتسق مع مستهدفات دول تكتل بروكسل (الاتحاد الأوروبي) بشأن الحد من تدفق اللاجئين على أراضيها، وبالتالي فقد أضفت ألمانيا شرعية على قرارها الخاص، والذي استند إلى رغبة أوروبية عامة في سلك نفس المسلك.
تداعيات القرار
لا شك أن القرار الألماني – رغم أنه لقي معارضة مع إحدى الدول الحدودية وهي بولندا بالتحديد – إلا أنه قرار من شأنه أن يكون له تبعات مهمة على مستقبل الاتحاد الأوروبي، وبالتحديد فيما يتعلق بتدفق اللاجئين إلى كل دول الاتحاد وليس إلى ألمانيا وحدها، حيث قد يسهل القرار من تنفيذ خطط بعض الدول الراغبة في تقليص عدد اللاجئين لديها، بموجب التشريعي الأوروبي الجديد المقرر أن يبدأ تفعيله في عام 2026.
ومن المقرر أن يكون للقرار الألماني تبعاته مع مستقبل تأشيرة السفر الحر في الاتحاد الأوروبي المعروفة باسم “تشينغن”، وهي التأشيرة الناتجة عن اتفاقية بنفس الاسم وقعتها بلدان أوروبا والتي تسمح بإلغاء عمليات المراقبة على الحدود بين البلدان المشاركة بها، كما تتضمن أحكامًا بشأن سياسة مشتركة بشأن الدخول المؤقت للأشخاص عبر دول الاتحاد، وهو ما من شأنه أن يعرقل تطبيق نظام التأشيرة بين دول الاتفاقية في ضوء الأوضاع والمستجدات الراهنة.
وقد بدأت فرنسا وهولندا بالتحديد إجراءات مماثلة لتلك الإجراءات الألمانية، إذ قررت باريس إعادة فرض الرقابة البرية على حدودها مع ست دول أوروبية، هي بلجيكا، ولوكسمبورغ، وألمانيا، وإيطاليا، وإسبانيا، وسويسرا، وهو القرار الذي اعتبرته وسيلة لتعزيز الإجراءات الأمنية ومواجهة التهديدات المحتملة، وجزء من استراتيجية أوسع لضمان الأمن الداخلي والتحكم في تدفق المهاجرين.
أما هولندا ففي الرابع والعشرين من أكتوبر الماضي اتخذت الحكومة اليمينية قرارها بإغلاق الحدود وإجراء عمليات تفتيش لضبط المهاجرين وطالبي اللجوء، في ضوء الضوابط الجديدة التي أقرتها الحكومة من أجل جعل المملكة أقل جاذبية للمهاجرين، وهي الإجراءات التي من المقرر أن تدخل حيز التنفيذ في الأول من ديسمبر المقبل.
سيسمح القرار أولًا بانكفاء داخلي على إعادة ترتيب أوراق اللاجئين إلى ألمانيا مؤخرًا والنظر في أوضاعهم بشكل دقيق، ومن ثم إعادة المهاجرين غير القانونيين عند الحدود في إطار الإجراءات الجديدة، وهو بالفعل ما طبقته ألمانيا حين أرجعت الشرطة الألمانية عائلة أفغانية لاجئة إلى بولندا في شهر يونيو الماضي، وهو ما أثار حفيظة بولندا بشكل كبير، كما سبق أن أعادت الشرطة الألمانية بنهاية عام 2023 ما يعادل 28 % من اللاجئين لديها إلى الدول المجاورة، بعدما سجلت ألمانيا دخولًا بنحو 42 ألفاً و307 حالة غير قانونية على الحدود، أعادت منهم 21 ألفاً و611 شخصاً منهم من حيث جاءوا، طبقًا لوكالة الأنباء الألمانية.
وثانيًا ستزداد حالات طرد اللاجئين من دول أوروبا سواء ألمانيا أو غيرها من الدول المجاورة لها، وخاصة على الحدود مع بولندا والتشيك، لأنهما الدولتان اللتان رفضتا القرار الألماني، كما سيعطي القرار دفعة للدول الأوروبية الأخرى بسلك نفس الطريق في إطار ما يسمى “الحفاظ على الهوية الأوروبية من خطر تنامي الجريمة العابرة للحدود”، بالتزامن مع تأزيم الأوضاع في الشرق الأوسط.
في النهاية.. يمكن القول إن السلوك الألماني قد يكون له ما بعده، حيث ستعمل دول أوروبية على السير في نفس الطريق، مادام لم يسفر عن غضب داخلي أوروبي من جانب، ومن جانب أخر مادامت تلك الإجراءات تتفق مع التشريعات الأوروبية المقرر السير على أساسها في 2026، وهو ما يدعم خطط اليمين المتطرف في دول أوروبا، ويسهم في تنفيذ برامجهم الانتخابية فيما يتعلق بمناهضة تدفق اللاجئين والهجرة غير الشرعية.