قراءة في الانتخابات الهولندية

ابوبكر باذيب
تشهد الساحة السياسية في هولندا، قبيل الانتخابات البرلمانية المقررة في 29 أكتوبر 2025، حالة من الحراك الحاد والاستقطاب الشعبوي غير المنضبط. ويطغى على المشهد تأثير توجهات اليمين المتطرف على التصريحات وأجندة الإعلام ومزاج الشارع المتحفّز، إلى جانب التجاذبات بين السياسيين في البرلمان ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي.
وتعكس هذه التطورات توازنات دقيقة بين قوى يمينية تسعى لفرض أجندتها، وأحزاب تقليدية تحاول المحافظة على حضورها، في وقت تتراجع فيه ثقة الجمهور بالمؤسسات السياسية، سيما بعد سقوط حكومتين خلال ثلاث سنوات بسبب ملف اللاجئين وآليات التعامل مع هذه الأزمة.
حظوظ اليمين المتطرف وفخ الهجرة
يتصدر حزب الحرية (PVV) بزعامة خيرت فيلدرز استطلاعات الرأي بنسب متفاوته، يتحكم في توجهاتها بعض الملفات والاحداث الانية في الشارع الهولندي، وبالرغم من ذلك فهو يحقق تقدماً على الأحزاب التقليدية من وسط اليمين الى اليسار بمشروعه الذي يطرح رؤية متشددة للهجرة واللجوء. الحزب يدعو إلى إغلاق استقبال المهاجرين، وترحيل طالبي اللجوء، وتعليق لمّ الشمل، بل وصل الأمر إلى المطالبة باستخدام الجيش لحراسة الحدود. هذه المقترحات وجدت صدى لدى شريحة واسعة من الناخبين القلقين من الضغوط على الإسكان والرعاية الصحية والهوية الثقافية.
وقد بنى “فيلدرز” برنامجه الانتخابي على تلك الحيثيات والمنطلقات والأهداف، وهو يسعى لترويجها عبر توجيه خطاب حاد إلى الشارع الهولندي. وقد ترتب على ذلك وقوع أعمال عنف في (لاهاي) دنيهاخ وعدد من المدن الهولندية من خلال إشارات عنف لفظي وسلوكي، خصوصًا تجاه بعض توجهات البلديات المتعلقة بفتح المزيد من مراكز استقبال اللاجئين.
اليسار ودور الأحزاب التقليدية
تواجه الأحزاب التقليدية، مثل الحزب الليبرالي (VVD) والديمقراطي المسيحي (CDA)، صعوبة في التمايز، إذ خسرت جزءًا من قاعدتها لصالح اليمين المتطرف، مما دفعها إلى تبني مواقف أكثر تشددًا في ملف الهجرة، في محاولة للحد من النزيف الانتخابي. ورغم أن هذه الأحزاب تتمتع بتاريخ طويل في العمل السياسي وإدارة الحكومات الهولندية، واكتسبت عبر العقود خبرات واسعة في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكان لها دور بارز في تجاوز أزمات اقتصادية سابقة، إلا أنها اليوم تواجه تحديًا يتمثل في كيفية التعامل مع ملف اللاجئين دون تحويله إلى ورقة للاستغلال السياسي. فالمسألة محاطة باعتبارات دستورية وقانونية حساسة، وتسعى هذه الأحزاب إلى تجنب أي تجاوز دستوري أو قانوني في مسارها التشريعي المتعلق باللاجئين.
هنا يبرز دور أحزاب اليسار، وعلى رأسها تحالف GroenLinks–PvdA، إلى تعزيز خطاب انتخابي يمكّنها من الاستمرار في المنافسة وتثبيت موقعها باعتبارها الخصم أو المنافس الأول لأحزاب اليمين. هذا الخطاب يحاول الموازنة بين استيعاب المزاج الشعبوي في الشارع الهولندي تجاه أزمة اللاجئين، وبين مراعاة الأبعاد الأوسع التي تشمل السياسة والاقتصاد والصحة والتعليم والبيئة.
لكن هذا التوجه يواجه صعوبة في ظل تنامي الخطاب الشعبوي الذي غذّته تصريحات دولية، أبرزها تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي اعتبر أن “الحدود المفتوحة” والهجرة غير الشرعية في أوروبا ستقودها إلى أزمات مستعصية الحل، مثل هذا الخطاب أصبح مادة خامًا لليمين الهولندي، الذي يوظفه لتبرير مواقفه المتشددة من اللجوء والهجرة.
لهذا يُنظر إلى شخصية زعيم التحالف فرانس تيمرمانس باعتبارها عنصرًا أساسيًا في تعزيز حضور اليسار، لما يتمتع به من ثقل داخلي وقدرة على التأثير. ولذلك تعوّل قوى سياسية معتدلة ومتنوعة الاتجاهات على أن يلعب هذا التحالف دورًا أكثر تقدّمًا، متجاوزًا إخفاقات التجارب السابقة، ومرسخًا موقع اليسار كقوة قادرة على تقديم بدائل حقيقية في المشهد السياسي الهولندي
الإعلام كأداة للتأثير
وفي ظل تعدّد المقاربات التي تحاول الأحزاب السياسية في هولندا استغلالها أو التعامل معها وفق براغماتية المصالح وتشابكاتها، يأتي دور وسائل الإعلام التي تؤدي وظيفة مركزية في ترسيخ خطاب الأزمة، مكمّلةً بذلك البعد الثالث في مثلث التأثير بين السياسيين والشارع والإعلام. إذ تركز على الحوادث المتفرقة المرتبطة بالمهاجرين، وتعيد صياغتها ضمن إطار “تهديد الأمن والهوية الوطنية”. وبهذا تتحول قضايا مثل الإسكان أو الضغط على قطاع الرعاية الصحية إلى قضايا مرتبطة بالمهاجرين، حتى وإن كانت أسبابها أوسع وأعمق. ومع ذلك، لا تتجاوز بعض الأحزاب أو السياسيين تناول هذه القضايا إلا على مستوى ثانوي من الأهمية.
هذه الاستراتيجية الإعلامية ساعدت في تحويل الهجرة إلى قضية محورية في النقاش العام. فبحسب استطلاعات Eurobarometer، يرى 45٪ من الهولنديين أن الهجرة هي التحدي الأهم الذي يواجه الاتحاد الأوروبي، وهي نسبة تفوق بكثير المتوسط الأوروبي. وفي الاستطلاعات المحلية، تأتي قضية اللجوء والهجرة ضمن المراتب الثلاث الأولى إلى جانب السكن والصحة.
مستقبل البرلمان الهولندي
الانتخابات المقبلة ستحدد ما إذا كان البرلمان الهولندي سيتحول إلى ساحة يهيمن عليها خطاب التشدد. في حال تمكن حزب PVV من تعزيز حضوره، فستكون النتيجة سياسات أكثر قسوة في الهجرة واللجوء، وربما صدامات مع الالتزامات الأوروبية والدولية. أما إذا نجحت الأحزاب التقليدية والوسطية في بناء ائتلاف واسع، فقد يتم احتواء موجة التطرف، لكن على حساب استمرار التنازلات في ملف الهجرة.
في كلتا الحالتين، سيظل البرلمان القادم عاملًا حاسمًا في رسم مستقبل البلاد، ليس فقط عبر التشريعات، بل عبر الرسائل الرمزية التي يوجهها إلى المجتمع الهولندي والعالم: هل ستبقى هولندا دولة تنتمي إلى قيم الانفتاح والتعددية، أم ستنحاز أكثر إلى الانغلاق والحمائية؟ وهكذا تبدو الانتخابات المقبلة ليس مجرد سباق حزبي، بل اختبارًا لهوية هولندا وقيمها أمام موجة الشعبوية الصاعدة.”

 
 
 


