المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / بناء السلام والعمل في هولندا

بناء السلام والعمل في هولندا

بناء السلام والعمل في هولندا

علي عبدالإله سلام

من بين اللحظات التي تظل راسخة في الذاكرة، تلك التي تتجاوز حدود المكان والزمان لتترك أثرًا عميقًا في النفس والفكر، ففي الفترة من 27 سبتمبر إلى 3 أكتوبر، كانت مشاركتي في التدريب الدولي لبناء السلام والعمل مع الشباب في هولندا واحدة من التجارب الاستثنائية التي أثرت فيّ بعمق على المستويين الشخصي والمهني. لقد جمعت هذه التجربة نخبة من المدافعين عن حقوق الإنسان وصنّاع السلام من العالم العربي والاتحاد الأوروبي، توحّدهم رؤية مشتركة تهدف إلى تعزيز ثقافة السلام، وتمكين الشباب، وبناء جسور التفاهم بين الثقافات.

بداية الرحلة

بدأت رحلتي في أواخر سبتمبر، حين وصلت إلى مدينة هولندية هادئة تُدعى Sint-Oedenrode تحيطها الطبيعة الخضراء من كل جانب، وكأنها تعكس فكرة السلام التي جئنا لنتعلّم كيف نبنيها. في الأيام الأولى، ساد جو من الحماس والتوقع بين المشاركين. كنا جميعًا نحمل قصصًا وتجارب من بلداننا، بعضها مليء بالتحديات وبعضها الآخر بالأمل والمبادرات الملهمة. منذ الجلسة الافتتاحية، أدركت أن هذا التدريب ليس مجرد برنامج أكاديمي، بل مساحة إنسانية للتعلّم، والمشاركة، وإعادة اكتشاف الذات والآخر.

محتوى التدريب والمواضيع المطروحة
تنوّعت الجلسات التي قُدّمت خلال الأسبوع، وجمعت بين الجوانب النظرية والتطبيقية. كان البرنامج متوازنًا بعناية ليشمل مفاهيم فكرية، ونقاشات عميقة، وتمارين عملية تساعد على ترسيخ المفاهيم.

– من أبرز المواضيع التي تناولناها:

١- مبادئ وأسس بناء السلام: فهم معنى السلام الحقيقي بوصفه عملية مستمرة، تتطلب مشاركة المجتمع كله وليس غياب النزاع فقط.

٢- أدوار الأفراد والمنظمات في نشر ثقافة السلام: كيف يمكن لكل شخص أن يكون فاعلًا في بناء التفاهم داخل محيطه.

٣- العمل مع الشباب وتمكينهم: باعتبارهم الفئة القادرة على التغيير وصنع المستقبل، مع مناقشة التحديات التي تواجه الشباب في المنطقة العربية وأوروبا.

٤- إدارة النزاعات وحلّها بوسائل سلمية: عبر أدوات مثل التفاوض، والوساطة، والاتصال اللاعنفي.

٥- مفاهيم العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية: من خلال دراسات حالة وتجارب دولية ناجحة.

٦- التواصل بين الثقافات (Intercultural Dialogue): تعلمنا كيف يمكن للفروق الثقافية أن تكون مصدرًا للثراء لا للتباعد.
كل جلسة كانت تفتح لنا آفاقًا جديدة، وتدفعنا للتفكير في واقعنا المحلي بعيون عالمية.

الأنشطة والتجارب العملية

ما جعل التدريب مميزًا هو الطابع التفاعلي الذي اعتمده المنظمون. لم يكن الأمر محصورًا في المحاضرات، بل كان يعتمد على التجربة والممارسة الفعلية، شاركنا في ورش عمل جماعية صممنا فيها مشاريع شبابية تهدف إلى نشر ثقافة السلام في مجتمعاتنا.

كما قمنا بمحاكاة مواقف حقيقية من النزاعات، وجرّبنا أدوات عملية في التفاوض وبناء الثقة بين الأطراف المختلفة. كان لكل تمرين أثر ملموس، ليس فقط في صقل مهاراتنا، بل أيضًا في تعميق فهمنا لما يعنيه أن تكون صانع سلام في عالم مليء بالتحديات، إحدى اللحظات المؤثرة عندما تواصلنا مع زميل مشارك لم يستطع الانضمام لهذا التدريب وهو من فلسطين الحبيبة، فاستمعنا له ولتجارب فلسطين وماهو الوضع الإنساني الذي سرد كثيرا من المعلومات كنا نجهلها، كان التنوّع مصدر إلهام، وأثبت أن السلام فكرة عالمية تُترجم بألف طريقة، لكن جوهرها واحد: الإنسانية المشتركة.

التنوع الثقافي وتبادل الخبرات

كانت التجربة الثقافية جزءًا لا يتجزأ من هذا التدريب. كل يوم كنا نعيش لحظات من التبادل الإنساني الحقيقي و من النقاشات الجادة إلى الأحاديث الودية على مائدة العشاء، حيث تتلاقى القصص والعادات واللهجات.
تعلمت أن التنوع لا يهدد التفاهم، بل يعزّزه، حين يُبنى على الاحترام والإنصات.

في إحدى الأمسيات، نظم المشاركون “ليلة ثقافية” قدّم فيها كل فريق الموسيقى والرقصات والأنشطة والممارسات الرائعة. كانت لحظة رائعة جسّدت فعلاً ما يعنيه “الاحتفاء بالاختلاف”.

أثر التجربة

بعد أسبوع مكثّف من التعلّم والنقاش، وجدت نفسي أكثر وعيًا بأهمية دور الشباب في بناء مجتمعاتهم، وأكثر اقتناعًا بأن السلام يبدأ من الداخل ومن قدرتنا على التواصل، والتسامح، وفهم الآخر.
أعاد هذا التدريب تشكيل رؤيتي لدوري كفرد في المجتمع.

أصبحت أنظر إلى عملي في مجال حقوق الإنسان من زاوية أوسع تشمل الوقاية من النزاعات، وتعزيز ثقافة الحوار، والعمل الجماعي.
كما اكتسبت شبكة من الأصدقاء والشركاء من مختلف الدول، يشتركون معي في نفس القيم والرؤية. نغادر بأحلام مختلفة، لكننا نحمل نفس الهدف: أن نكون سفراء للسلام في أوطاننا.

خاتمة

كانت تجربة التدريب في هولندا أكثر من مجرد أسبوع من التعلم؛ كانت رحلة لاكتشاف الذات والآخر، وإعادة تعريف مفهوم السلام في حياتنا اليومية، تعلمت أن بناء السلام ليس مهمة المؤسسات الكبرى فحسب، بل هو مسؤولية كل فرد يؤمن بالإنسان وبحقه في العيش بكرامة وأمان. وسأبقى ممتنًا لهذه التجربة التي منحتني طاقة جديدة لأواصل العمل في مجالي بإيمانٍ أكبر بأن السلام ممكن، حين نبدأ بأنفسنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *