المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / صعود اليمين الشعبوي هل هو  إخفاق لليسار؟

صعود اليمين الشعبوي هل هو  إخفاق لليسار؟

صعود اليمين الشعبوي هل هو  إخفاق لليسار؟

د. جمال حسين*

توقّفوا لحظة واستمعوا ليس لصخب البرلمان ولا لخطابات التلفزيون، بل لصوت الشارع  همسات المقاهي، أحاديث الحافلات، رسائل الجدران الافتراضية. هناك، حيث يلتقي الخوف بالأمل، تبرز سياسةٌ تبسط المشاكل العالم و توعد بحلول سريعة. اليمين الشعبوي لا ينتصر دائماً بالواقع، بل غالباً بقدرته على اعادة تركيب الخوف إلى خطاب يومي، خطاب يصل إلى القلب قبل العقل، ويمنح السامع يقيناً داخل عالم مائع.

لكن لننظر إلى المرآة: ما الذي يقدمه هذا التيار حين ينتقل من الكلام إلى الحكم؟ وما الذي يمكن أن يقدمه الوسط واليسار كي يردّوا على شعبوية الخوف بعروضٍ عملية تُعيد للناس شعور الأمان والكرامة؟

  • خطاب اليمين لغة بسيطة لأزمات مركبة

اليمين الشعبوي يعمل كمن يعيد تغليف الألم  يقص الشريط على قضايا معقدة فيصبح لدى المواطن وصفة جاهزة. خطاب قصير، شعار جامد، وعود الاستعادة،  استعادة الأمن، استعادة السيادة، استعادة العمل. هذا الأسلوب يجذب شرائح شعورية تشعر بأن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية مرّت بها مرور الكرام، وتركتها على حافة الغبن.

أداة اليمين الأقوى ليست الفكرة وحدها، بل طريقة توصيلها نشر المخاوف، تحويل حادث موضعي إلى دليل عام، سحب العاطفة إلى واجهة الساحة. في زمنٍ تحركه شبكةٌ رقمية، تصل الرسائل السهلة إلى قلب الجمهور أسرع مما تصل إليه الحِجج الطويلة.

  • مؤشرات حكم اليمين الاقتصادية والاجتماعية

حين تتولى أحزاب  اليمين الحكم في أوربا  تتبني  غالبا سياسات مسؤولية إدارة الاقتصاد، يتجلئ  نمط متكرر: أولوية لتحفيز السوق وخفض العبء على رأس المال، مقابل تقييد الإنفاق العام على الخدمات التي تهم المواطن اليومي. النتيجة العملية تظهر في بضعة مؤشرات مؤلمة، لا تحتاج إلى أرقام دقيقة لتبرهن عن آثارها

  • تقليص الاستثمار في التعليم والبحث، مدارس ومعاهد تتقشف، برامج بحثية تجمد أو تخفض ميزانيتها، ما يضعف قدرة البلد على الابتكار طويل المدى ويقلص فرص الشباب.
  • ضغوط على النظام الصحي: انتظار أطول، نقص في الكوادر، وتأثر جودة الرعاية عند نقطة الالتقاء بين الحاجة والموارد.
  • زيادة الاعتماد على أدوات السوق لتقديم الخدمات العامة: خصخصة أو عقود إدارة قد تسرّع الأداء في بعض الحالات، لكنها في كثير منها تُقوّض العدالة وتحوّل المواطن من مستخدم لحق إلى زبون للدفع.
  • تآكل الشبكات الاجتماعية: شبكات الأمان الاجتماعي تصبح أقل قدرة على الاستيعاب، فيفقد المواطن شعور الأمان اليومي ويزداد ميله إلى الاستماع لصوتٍ يقدّم حلولاً سريعة ولو كانت رمزية.

ببساطة: سياسة تعد بالنمو عبر تحرير السوق غالبًا ما تترك أثرا معاكسا على الطبقات الوسطى والدنيا؛ نموًّا لا يصلُ، خدمات تتراجع، وثقة تنكمش.

نقاط القوة والضعف لأحزاب اليمين

قوة اليمين تكمن في براعته الاتصالية وقدرته على تحويل المخاوف المنتشرة إلى رسائلٍ مُوحّدة. كما أن بعض برامجه الطارئة قد تبدو فعّالة قصيرًا نجد إجراءات أمنية سريعة هنا، حزم تشجيع استثماريّة هناك  فتبدو وكأنها تستجيب لنبض الشارع.

لكن تحت هذا الزخم صوت آخر يهمس بالنقائص ضعف الحلول الاقتصادية البنيوية، الانزلاق نحو سياسات قصيرة الأجل، والتبعية المحتملة لمصالح جهاتٍ اقتصادية تفضّل القواعد المرنة والضرائب المنخفضة. عندما يكشف أن الشعارات لا تتحوّل إلى سياسات تنمية حقيقية، يتبدد السحر وتظهر هشاشة المشروع.

القدرات العملية لأحزاب الوسط واليسار وحاجاتها لتسويق خطابها

اليسار والوسط يمتلكان أدوات ملموسة أكثر لاستعادة التوازن  قدرة على التخطيط المالي، مؤسسات عامة، خبرة في تصميم سياسات اجتماعية،   و ارتباطا  تقليديا  نقابات ومؤسسات المجتمع المدني. هذه القدرات تقدم مفاتيح استقرار حقيقي إذا ما ترافقت مع إرادة سياسية ورفع لوتيرة التنفيذ.

ومن بين الحلول الممكنة إعادة توجيه النمو لقياس جودة الحياة (الأجور الحقيقية، الفرص التعليمية، الخدمات الصحية)، تمويل بدائل عبر فرض عدالة ضريبية على الريوع، استثمارات موجهة في التعليم والبحث كمحرك الوظائف المتقدمة، وبرامج اندماج عملية تربط الوافدين بسوق عمل واضح ومطلوب.

لكن الوسط واليسار نقاط ضعف يجب الاعتراف بها قبل معالجتها لغة برامجية باردة، قصور في السرد الاتصالي، بطء في تحويل الوعود إلى نتائج محسوسة، وتشتت تحالفات سياسية أحيانًا. إن لم يترجم البرنامج الاقتصادي والاجتماعي إلى قصص يومية عن سكن أفضل وطبابة أوفر ومدارسٍ تعد أبناء الناس، يبقى خطاب اليمين أسرع في الوصول إلى المشاعر.

  • مواجهة شعبوية الخوف مزيج الحزم والرحمة

بغض النظر عن الانتماء السياسي ولكن لابد من مواجهة شعبوية الخوف ايا كان من يتبناه لخطورته على المجتمع ولتحقيق مواجهة الفاعلة  يجب ألا يكون  بالصراخ المضاد بل ببناء يقين أفضل. هذا يتطلب:

سردًا إنسانيًا يشرح كيف سيتحسن يوم العائلة؛ كيف ستصبح المدرسة أقل اكتظاظا ، كيف سينخفض زمن الانتظار الطبي، وكيف ستحصل الشهادة المهنية على فرصة للعمل اللائق.

سياساتٍ سريعة المفعول وقابلة للقياس: حزم تدريب مهني تستهدف قطاعات ذات طلب حقيقي، برامج إسكان اجتماعي مرنة، ومشروعات بحث تطمح إلى تشغيل شباب مؤهّل.

تشريعات تحمي من خطاب الكراهية وتعزز العدالة في الوصول للخدمات، لأن حماية الحقوق تعني حماية أمن المجتمع بأسره.

تحالفات محلية  التعاون مع نقابات ومؤسسات مدنية وجامعات لتنفيذ برامج اندماج وتدريب تصنع أثرا حقيقيا على الأرض.

السياسة فن العناية بالناس

إذا كان اليمين ينجح لأنة يبيع يقينا سريعا فالمهم أن تقدم النخب السياسية من الوسط واليسار  يقينا أفضل يقينا مبني على أعمال تحس لا على وعود تقال. السياسة ليست مصدر للخوف، بل هي رغبةٌ جماعية في صنعِ غد يستوعب الناس و يكافئهم غدٍ لا تباع فيه الأمانة بشعارات، ولا تشتري الكرامة برخصة. حين تقاس البرامج بمقياس الحياة اليومية   حينذاك ينهار خطاب الخوف أمام وقائع تمنح الناس سببا للثقة.

  • أكاديمي ومستشار قانوني يمني مقيم في هولندا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *