الحلقة الثالثة.. مدى التوافق الأوروبي على بنود ميثاق الهجرة واللجوء

يعد ميثاق الهجرة واللجوء الأوروبي هو أكثر القضايا جدلًا وحساسية في أوروبا خلال تلك الفترة، خاصة بعدما أقره البرلمان الأوروبي في العاشر من أبريل من العام الماضي 2024، وهو الميثاق الذي استغرق إعداده والموافقة عليه أعوامًا طويلة، والذي يستهدف الحد من زيادة تدفق اللاجئين إلى القارة الأوروبية. وعلى الرغم من إقرار الميثاق الذي يستهدف الحفاظ على الهوية الأوروبية، إلا أن مسألة التوافق الأوروبي عليه كانت دائمًا مثار جدل وحديث متواتر بين مسؤولي القارة العجوز، إذ رفضته هولندا والمجر خلال التصويت عليه، ودعمت المنظمات العاملة في المجال الإنساني موقف الدولتين الرافضتين، فيما تعمل دول الأغلبية على التنسيق المتبادل بينها من أجل تنفيذ بنود الميثاق بحذافيرها بما يمكنها من تحقيق التوازن المنشود في أوروبا.
التمرير يعني التوافق
ويشير إقرار الميثاق بعد مناقشات جادة حول بنود الميثاق والتشريعات التي ضمتها قوانينه إلى توافق أوروبي حول قضية الهجرة واللجوء، وتوافق على ضوابط أمنية تجاه مسألة تدفق المهاجرين، على الرغم مما شهدته الساحة المواجهة للبرلمان الأوروبي من احتشاد لعدد كبير من الرافضين لتمرير الميثاق والذين رفعوا لافتات مكتوب عليها “ارفضوا الميثاق”، لكن على جانب آخر توافقت الدول الأوروبية التي دعمت الميثاق على تمريره بمعدل 55 % من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وقد كانت الموافقة بتلك النسبة الضئيلة مثار جدل كبير في الأوساط الأوروبية، وهو ما كشف عن وجود أصوات رافضة لعدد من التشريعات التي ضمتها بنود الميثاق، لا رفض للميثاق نفسه، ما يشير إلى أن تعديل بعض المواد فيه قد يمنح الميثاق أصواتًا أكثر مما حصدها خلال جلسة تمريره.
وقد استندت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين- التي قدمت الميثاق لمناقشته – على تأكيدات تشير إلى أن الميثاق من شأنه أن “يومن الحدود الأوروبية ويضمن أيضًا حماية الحقوق الإنسانية للمهاجرين”، وقد ضغطت في سبيل تمرير الميثاق بعد أعوامًا عديدة من المناقشات التي جرت في أوروبا بشأن قضية اللاجئين، وبسبب ما يتورط فيه اللاجئين من جرائم جنائية كحوادث الدهس والطعن، مع تغييرات بدأت تطرأ على الهوية الديمغرافية لدول أوروبا، بجانب بعض القضايا الأخرى المتعلقة بالاقتصاد الأوروبي، والتي يكون السبب فيها عادة تزايد معدل اللاجئين في أوروبا.
لكن في كل الأحوال يعبر تمرير الميثاق عن توافق أوروبي حيال قضية تدفق اللاجئين وخاصة اللاجئين العرب والأفغان إلى دول أوروبا، وهو ما استدعى تنسيقًا على مستويات أعلى بين الدول المتوافقة بشأن آليات تنفيذ بنود الميثاق المقرر أن يدخل حيز التنفيذ في شهر يونيو من العام المقبل 2026، من حيث بناء مراكز احتجاز اللاجئين على الحدود، والتنسيق مع بقية دول أوروبا المقرر أن يتم توزيع بعض اللاجئين المرفوضين في دول أخرى عليها، طبقًا للأوضاع الاقتصادية لكل دولة على حدة.
الرافضون للميثاق
ينقسم الرافضون لميثاق الهجرة واللجوء إلى قسمين على النحو التالي:
أولًا: القسم الأول: وضم الرافضون للميثاق، ويدخل تحت إطاره المنظمات الدولية العاملة في المجال الإنساني، كمنظمة العفو الدولية التي انتقدت البند الخاص ببناء مراكز حدودية لاحتجاز طالبي اللجوء وإرسال بعضهم إلى بلدان “آمنة” خارج البلاد، حيث اعتبرت المنظمة أن الاتحاد الأوروبي دعم “بشكل مخز” اتفاقا “يعلم أنه سيؤدي إلى معاناة إنسانية أكبر للاجئين”. كما انضمت لها جمعية الصليب الأحمر الدولية التي حثت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على “ضمان الظروف الإنسانية لطالبي اللجوء والمهاجرين المتضررين”.
وتشير تعليقات المنظمات الدولية المتحفظة على الميثاق أنها لا ترفض الميثاق بشكل عام أو في المطلق، وأن صوتها نابع من رغبة في تعديل ظروف احتجاز اللاجئين فقط، مع احتمال موافقتها على حق الدول الأوروبية في اتخاذ ما يلزم من تدابير لمواجهة تدفق اللاجئين إليها، إلا أنه من وجهة نظر تلك المنظمات ينبغي على دول أوروبا أن تحسن من ظروف تنفيذ بنود الميثاق فقط لا إلغاؤه من الأساس، وأن البند الوحيد المتعلق بإنشاء مراكز حدودية لاحتجاز اللاجئين لحين البت في طلباتهم هو المطلب الوحيد الذي ترى تلك المنظمات ضرورة تعديله بما يتناسب مع “حقوق الإنسان”.
ثانيًا: القسم الثاني: ويضم المتحفظون على بعض بنود الميثاق من الدول الأوروبية كالمجر وبولندا، وهي الدول التي تحفظت على بعض التشريعات التي يضمها الميثاق، والذين طلبوا تعديلا على تلك البنود، فضلًا عن أن رفضهم للميثاق ليس رفضًا لمسألة وقف تدفق اللاجئين، بل رفضًا لما اعتبروه تساهلًا في قبول اللاجئين الذي يكرسه الميثاق، على الرغم من سمعة الميثاق المتعلقة بمدى قبول أوروبا للاجئين.
وتشير التصريحات إلى رفض تجمع “فيشغراد” – وهو تحالف سياسي وثقافي انضم في الاتحاد الأوروبي عام 2004، والذي يتكون من دول أربعة هي “بولندا والمجر وسلوفاكيا والتشيك” – للميثاق، إذ لا يعتبر ذلك التحفظ أو الرفض رفضًا لبنود الميثاق في مجملها أو للفكرة التي يقوم عليها الميثاق وهو رفض قبول اللاجئين، بل إن دول التجمع تحفظت في الأساس على قبول لاجئين لديها، واعترضت على البند الذي ينص على “استقبال كل دولة في الاتحاد عددا محددا من المهاجرين أو دفع مبلغ يصل إلى 20 ألف يورو عن كل مهاجر ترفضه”، إذ صدرت تصريحات عن وزير الخارجية الهنغاري إن اتفاق الهجرة واللجوء الجديد “يعطي الضوء الأخضر عمليًا للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا“، فيما شككت التشيك في أن ينجح الميثاق في إنجاز المهمة التي كتب من أجلها.
كما اتفق رئيس الوزراء السلوفاكي أنذاك روبرت فيكو مع التوجه ذاته، وأكد أن بلاده سترفض تنفيذ قواعد ميثاق الهجرة واللجوء، من باب رفض بلاده الانصياع لما اعتبره إجبار دولًا ما دولًا أخرى على قبول 300 مهاجر لا تعرف شيئًا عنهم، أو دفع 20 ألف يورو عن كل مهاجر، وهو ما اعتبره إملاءً غير مقبول من الدول التي وافقت على الميثاق ومررته.
ويشير ذلك الموقف أيضًا إلى أن رفض تجمع فيشغراد لتمرير الميثاق هو محاولة من تلك الدول لحماية نفسها من بنود الميثاق التي تجبر الدول الموافقة عليه على قبول عدد معين من المهاجرين، في ظل أن تلك الدول أساسًا ترفض استقبال مهاجر واحد، وبالتالي فهي تعمل على تشديد ضوابط الهجرة إليها، وتعتبر أن الميثاق على وضعه الحالي تراخى كثيرًا في الحد من تدفق اللاجئين ببنوده الحالية التي تسمح أساسًا بالنظر في طلبات اللاجئين واستضافتهم على حدود أوروبا، إذ تعتبر دول فيشغراد أن تلك الإجراءات هي بداية السماح لولوج اللاجئين مجددًا لأوروبا، وأن الميثاق بهذا الآداء لا يعالج مسألة تدفق اللاجئين، بل يسمح لهم الدخول لأوروبا وفق ضوابط جديدة فقط لا تحظى بتوافق عام.
وقد عزز ذلك ما أعلنته ألمانيا من مخاطر تتعلق بمنطقة “شنغن” الأوروبية، وهي المنطقة التي لا تستوجب دخولها الحصول على تأشيرات، وهو ما ضاعف من مخاطر تحرك اللاجئين على الأراضي الأوروبية بمنتهى الأريحية، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق يحد من الموافقة على طلبات اللجوء، وإعطاء الحماية للاجئين لدخول أوروبا والمرور عبر منطقة شنغن.
وقد عزز ذلك الطرح ما أعلنه كلًا من وزيرا خارجية ألمانيا والنمسا، من ضرورة إنشاء مراكز تفتيش مؤقتة على الحدود داخل منطقة شنغن لوقف تدفق اللاجئين، وهو إجراء لم ينص عليه ميثاق الهجرة واللجوء الأوروبي، على اعتبار أن عمليات التدقيق والتفتيش تمت في مراكز الاحتجاز على الحدود خارج أوروبا، وهو ما دعا وزير الداخلية الألمانية نانسي فايسر أن تؤكد على أن “اتفاقية شنغن في خطر إذا لم ننجح في التوصل إلى اتفاق”. وهو ما يشير إلى أن العلاقات بين دول أوروبا وبعضها قد تتهدد إذا لم يتم البت في ميثاق الهجرة واللجوء سواء على وضعه الحالي، أو حتى في ظل وجود أصوات عقدت العزم على إجراء إصلاحات في الميثاق في وقت لاحق بعد النظر في إجراءات تنفيذه ومدى نجاعتها في التوصل إلى الغرض منها.
خاتمة
في المجمل .. وبنظرة بانورامية على الموافقون والرافضون للميثاق، سندرك أن الموافقين على الميثاق لهم مبرراتهم الوجيهة في القبول، أما الرافضون للميثاق فإن رفضهم ليس نابعًا من تعاطفهم مع المهاجرين ولا إجراءات احتجازهم كما ترى المنظمات الإنسانية، بل إن حكومات الدول الرافضة للميثاق ترى أن بنوده غير كافية للحد من تدفق اللاجئين وكانت ترى ضرورة أن تتشدد بنوده أكثر في الحد من وصول اللاجئين إلى الحدود الأوروبية، خوفًا من تأثيرات سلبية على علاقات دول أوروبا وبعضها.
وفي النهاية يبدو أن الاتجاه العام داخل أوروبا كلها يشير إلى وحدة الهدف المتمثل في منع وصول المهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا، حيث دعم ذلك التوجه الصارم أحزاب اليمين المتطرف بأجندتها الرافضة للمهاجرين، بجانب تورط عدد من المهاجرين في عمليات قتل ممنهجة وحوادث جنائية، أسفرت عن حالة رفض تام لوجود اللاجئين على أراضي أوروبا.