المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / الثقافة القانونية حصنك من العنصرية

الثقافة القانونية حصنك من العنصرية

الثقافة القانونية حصنك من العنصرية

د. جمال حسين

الثقافة القانونية من أعرق وأسمى أشكال الثقافة التي يمكن أن تحمي الإنسان في كل زمان ومكان. في مجتمعاتنا الشرق أوسطية، كان معيار الحماية والنجاة يرتبط غالبًا بالقوة الجسدية أو الانتماء القبلي أو النفوذ السياسي. فالقوي هو من يمتلك السند والعشيرة، والضعيف هو من تُهدر حقوقه وكرامته دون أن يجد من يدافع عنه. وإذا لم يكن لك أصدقاء أو قبيلة أو جماعة تتكئ عليها، كنت عرضة للظلم والخذلان.

أما في أوروبا، فالصورة مختلفة تمامًا. هنا لا مكان لمنطق القوة البدنية أو القبلية، لأن القانون هو القبيلة الجديدة، وهو الدرع الذي يحمي الجميع دون تمييز في الأصل أو اللون أو الدين. فالمعرفة القانونية ليست دراسة جامدة أو حرفة مهنية، بل هي ثقافة تمنح الإنسان وعيًا عميقًا بحقوقه، وتمنحه القوة ليواجه أي اعتداء يمس كرامته أو حريته.

ولعل أبرز التحديات التي يواجهها القادمون الجدد في هولندا اليوم هي الاعتداءات اللفظية ذات الطابع العنصري، التي تزايدت بفعل التعبئة المستمرة من قبل بعض التيارات اليمينية المتطرفة. كلمات مثل “Kutvluchteling” (اللاجئ الحقير)، أو “Asielzoeker rot op” (أيها اللاجئ انقلع)، أو “Kutmarokkaan / KutTurk / Kutmoslim” (المغربي الحقير / التركي الحقير / المسلم الحقير)، أو “Parasiet” (الطفيلي)، و“Zandneger” (الزنجي)، و“Gelukszoeker” (باحث عن الحظ)، كلها تعبيرات تُستخدم للأسف ضد اللاجئين وأصحاب البشرة الداكنة والمسلمين، وتترك آثارًا نفسية عميقة في نفوس من يسمعها، خاصة من لم يتمكن بعد من اللغة أو من أدوات الدفاع عن النفس.

القانون الهولندي لا يتساهل مع هذه التصرفات. فالمادتان 137c و137d من القانون الجنائي الهولندي تنصان بوضوح على تجريم كل من يميز أو يحرض ضد مجموعة بسبب العرق أو الدين أو الأصل القومي، أو يستخدم ألفاظًا مهينة علنًا ضد فئة معينة. وتصل العقوبة إلى الغرامة أو السجن لمدة عام كامل في الحالات الجسيمة. هذه ليست نصوصًا شكلية، بل ضمانات واقعية تحمي المجتمع من الانزلاق إلى الكراهية والفوضى.

لكن السؤال الأهم: كيف يمكن للشخص العادي أن يثبت أنه تعرض لموقف عنصري؟

الجواب يبدأ من الوعي. أول ما يجب فعله هو الحفاظ على الهدوء وتوثيق كل شيء: الوقت، المكان، أوصاف المعتدي، وجود شهود، وأي تسجيلات أو صور إن أمكن. في العالم الرقمي، كل كلمة تُكتب يمكن أن تكون دليلًا، لذا يجب الاحتفاظ بالرسائل والمنشورات المسيئة وعدم حذفها.

بعد ذلك، يجب الإبلاغ رسميًا. يمكن التوجه إلى مركز الشرطة أو استخدام الموقع الإلكتروني الرسمي لتقديم بلاغ عن التمييز أو الإهانة. كما يمكن التواصل مع مكاتب مكافحة التمييز الموجودة في كل مقاطعة، مثل “Anti Discriminatie Bureau ، وهي جهات مستقلة تقدم المساعدة القانونية والدعم العملي. في بعض الحالات، يمكن أيضًا إبلاغ البلدية إذا وقع الحادث في بيئة عمل أو مدرسة.

أما من الجانب الإنساني، فلا ينبغي إهمال الأثر النفسي. فالعنصرية ليست مجرد كلمات، بل جرح يصيب الإحساس بالأمان والانتماء. هناك مؤسسات تقدم الدعم النفسي والاجتماعي مثل “Slachtofferhulp Nederland”، ويمكن للطبيب العائلي توجيه الضحية إلى مختص نفسي إذا تطلب الأمر ذلك.

من المهم ألا يكتفي الإنسان بالصمت، لأن القانون لا يحمي الصامتين. كل بلاغ وكل صوت يسهم في بناء مجتمع أكثر عدلًا واحترامًا. الصمت يشجع المعتدي، أما المواجهة القانونية فتردعه وتعيد للضحية إحساسه بالكرامة.

لقد تعلمت أن المعرفة بالقانون ليست ترفًا فكريًا ولا مجرد مادة دراسية، بل وعي يمنحك القوة ويدفع عنك الضعف. القانون في هولندا يقف مع من يعرف حدوده ويستخدمه، لا مع من يخاف أو يصمت. لهذا أقول لكل قادم جديد: ثق بنفسك، احترم البلد الذي احتواك، واعرف أن ثقافتك القانونية هي حصنك الحقيقي، وهي جوازك نحو حياة كريمة يسودها الاحترام والمساواة.

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *