التحديات التي تواجه أوروبا بعد فوز ترامب

أنهى الرئيسان الألماني والفرنسي اجتماعهما بعبارة واضحة: “على أوروبا أن تتحد وتنسق مواقفها لمواجهة ترامب”. هذه العبارة تثير تساؤلًا مهمًا: كيف يمكن أن يؤثر وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة على أوروبا، التي احتفظت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بعلاقات مميزة وعميقة مع الولايات المتحدة، علاقات يسودها الامتنان والتبعية، سواء في الجانب الغربي من أوروبا أو في أوروبا الموحدة اليوم؟
إرث الحرب العالمية الثانية والتأسيس للعلاقات الأوروبية-الأمريكية
بعد الحرب العالمية الثانية، تم الاتفاق بين الحلفاء على تقسيم النفوذ العالمي. حصلت الولايات المتحدة على السيطرة على الجانب الغربي من أوروبا، بينما كان الجانب الشرقي تحت الهيمنة السوفيتية.
في الشرق: فرض الاتحاد السوفيتي هيمنته عبر السيطرة الاقتصادية الكاملة وتفكيك البنية الصناعية في ألمانيا الشرقية.
في الغرب: سعت الولايات المتحدة إلى إعادة البناء عبر مشروع مارشال، الذي كان هدفه الأساسي هو خلق تبعية متوازنة وتعزيز الاقتصاد الأوروبي لمواجهة النفوذ الشيوعي.
تأسست العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا على هذه الأسس وظلت ثابتة لعقود، بغض النظر عن تغيّر الإدارات الأمريكية. حلف الناتو كان دائمًا حجر الأساس لهذه العلاقة، حيث عمل على تنسيق الجهود الدفاعية والتصدي لأي اعتداء خارجي كقوة موحدة.
التحديات العسكرية: الناتو في وجه التهديدات المتزايدة
رغم نجاح حلف الناتو في تعزيز الأمن الأوروبي، إلا أنه واجه سلسلة من التحديات العسكرية، منها:
البوسنة والهرسك (1995): تدخل الناتو لإنهاء الحرب الأهلية والإبادة الجماعية.
صربيا وكوسوفو (1999): فرض حملة عسكرية لحماية المدنيين الألبان.
الحرب في أفغانستان (2001-2021): أطول مهمة للناتو، والتي أثارت تساؤلات حول فعالية الحلف في التعامل مع التحديات طويلة الأمد.
الحرب في ليبيا (2011): رغم الإطاحة بالقذافي، تعرض الناتو لانتقادات واسعة لعدم وجود خطة واضحة لمرحلة ما بعد التدخل.
التدخلات الروسية:
أوكرانيا (2014 و2022): اكتفى الحلف بتقديم دعم سياسي ولوجستي لأوكرانيا دون تدخل عسكري مباشر، مما أثار تساؤلات حول قدرته على الردع. أبرز هذه التدخلات كانت مواجهة الحرب الهجينة، التي دمجت بين القوة العسكرية التقليدية والعمليات غير المباشرة.
ترامب وحلف الناتو:
رغم أن الناتو كان دائمًا يعمل بتنسيق مع الولايات المتحدة، فإن ترامب كان يشكك بشكل متكرر في جدوى الحلف، منتقدًا المساهمة الأوروبية المالية التي وصفها بأنها غير كافية. هذا الموقف أثار قلقًا بشأن احتمال تفكك الحلف، ما قد يترك أوروبا وحدها في مواجهة التحديات الأمنية، خصوصًا أمام التهديد الروسي.
التحديات الاقتصادية: الحمائية وصراع التجارة
سياسات ترامب الاقتصادية تحت شعار “أمريكا أولاً” أثارت سلسلة من التحديات الاقتصادية التي وضعت أوروبا في موقف صعب:
رفع الرسوم الجمركية: فرض ترامب رسوماً على واردات الصلب والألمنيوم من أوروبا لحماية الصناعة الأمريكية، وهدد بفرض رسوم إضافية على السيارات الأوروبية، مما أثار قلقًا كبيرًا في دول مثل ألمانيا.
خلل الميزان التجاري: ترامب وصف الاتحاد الأوروبي بأنه “عدو اقتصادي” بسبب العجز التجاري الكبير لصالح أوروبا، خاصة في قطاعات السيارات والصناعات المعدنية. ودعا أوروبا إلى تقليل صادراتها إلى الولايات المتحدة، مما زاد من تعقيد العلاقات التجارية.
حظر التكنولوجيا المتقدمة: فرض قيود على تصدير التكنولوجيا في مجالات الذكاء الاصطناعي وشبكات الجيل الخامس. وخفض تمويل مشاريع التعاون في الفضاء والدفاع والطيران، مستهدفًا شركتي “بوينغ” و”إيرباص”.
ضعف منظمة التجارة العالمية: عمل ترامب على إضعاف دور منظمة التجارة العالمية، التي تعتمد عليها أوروبا في حل النزاعات التجارية. ورفض تعيين قضاة استئناف في المنظمة، مما عطل قدرتها على فض النزاعات.
التحديات القانونية: اختلاف الأنظمة بين أوروبا وأمريكا،اختلاف الأنظمة القانونية بين الجانبين كان له تأثير عميق على حل الخلافات التجارية:
النظام الأمريكي: يعتمد على القانون العرفي (Common Law)، الذي يمنح المحاكم مرونة كبيرة في تفسير القوانين.
النظام الأوروبي: يعتمد على القانون المدني (Civil Law)، الذي يرتكز على النصوص المكتوبة والقواعد الصارمة.
هذا التباين دفع إدارة ترامب إلى تفضيل التحكيم الدولي على المحاكم، واستبعاد المحاكم الأوروبية. كما أن سياسة عقد الاتفاقيات الثنائية مع دول أوروبية محددة، بدلاً من التفاوض مع الاتحاد الأوروبي ككتلة موحدة، أضعفت الموقف التفاوضي الأوروبي وزادت من الانقسامات الداخلية.
رؤية مستقبلية: هل تستطيع أوروبا مواجهة ترامب؟
السياسات الحمائية والضغط السياسي من قبل إدارة ترامب وضع أوروبا أمام تحديات غير مسبوقة. ولعل التحدي الأكبر هو:
الوحدة الأوروبية: تحتاج أوروبا إلى تجاوز خلافاتها الداخلية وتوحيد رؤيتها السياسية والاقتصادية. أي تهاون في التنسيق سيؤدي إلى تفاقم الخلافات الاقتصادية وزيادة الضغوط الخارجية.
دور الأمين العام الجديد للناتو: مع تعيين مارك روته أميناً عاماً جديداً للناتو، هناك فرصة لتجاوز الخلافات وإعادة ترتيب الأولويات لمواجهة التحديات الأمنية التي تواجه أوروبا.
الخلاصة:
فوز ترامب أعاد تشكيل العلاقة بين أوروبا وأمريكا من شراكة استراتيجية إلى مواجهة على عدة مستويات. وبالرغم من أن أوروبا تواجه تحديات عسكرية واقتصادية وقانونية، فإن تجاوز هذه العقبات يتطلب رؤية موحدة واستراتيجيات جديدة للحفاظ على مكانتها في عالم يشهد تغيرات سريعة.