المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / الانقسامات الأوروبية بين فشل اليسار ودلالات وصول اليمين 

الانقسامات الأوروبية بين فشل اليسار ودلالات وصول اليمين 

الانقسامات الأوروبية بين فشل اليسار ودلالات وصول اليمين 

 

تمكنت أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا من الصعود على أنقاض فشل كبير في سياسات أحزاب اليسار والأحزاب القومية الحاكمة لأوروبا لسنوات مضت، خاصة بعد تدفق اللاجئين بنسب كبيرة على القارة العجوز، علاوة على فشل الأحزاب اليسارية في الوفاء بالتزاماتها الحزبية والسياسية والاقتصادية لشعوب أوروبا، وهو ما أفسح المجال أمال رغبة الأوروبيون في تجريب توجهات أحزاب اليمين التي رأوا فيها إنقاذا لهويتهم الأوروبية، وللحد من تباين المجتمعات التي بدأت تتماثل مع انغماس اكبر للمهاجرين في المجتعات الاوروبية.

وقد أظهرت انتخابات البرلمان الأوروبي التي انعقدت في يونيو من العام الجاري صعودًا مخيفًا لأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، فضلًا عن اعتلاء شخصيات يمينية متطرفة سدة الحكم في عدة دول، وهو ما جعل الأنظار تتجه إلى ضرورة تقييم الحاضنة الشعبية للأحزاب اليمينية المتطرفة وطبيعة خطابها السياسي الذي أدى إلى صعود كبير لها على حساب أحزاب اليسار والإشتراكيين ويمين الوسط، وهو ما يشي بتغييرات كبيرة في تجمع بروكسل خلال الفترة المقبلة، وقد يشير أيضًا إلى احتمال تفكك الحلف العجوز في القريب العاجل.

عوامل الظهور والانتشار 

1 الأزمات الاقتصادية: وهو من أهم العوامل التي أسهمت في التسويق للأحزاب اليمينية المتطرفة، ويحفل التاريخ بعوامل اقتصادية أسهمت في صعود تلك الأحزاب أبرزها الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت العالم في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي والتي سميت بـ”الكساد الكبير”، والتي أسهمت في بروز النازية في ألمانيا على يد هتلر والفاشية في إيطاليا على يد موسيليني، واللذان تحالفا سويًا في الحرب العالمية الثانية، وهو ما يشير إلى أن أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا تستثمر في الأزمات الاقتصادية والسياسية لإظهار عوارأحزاب الوسط واليسار في معالجة قضايا الاقتصاد وقضايا أخرى. 

وبالتالي يمكن القول إن الأزمات الاقتصادية والمجتمعية لأوروبا والعالم، والتي أعقبت جائحة كورونا 2019، وارتفاع نسبة التضخم العالمي، وكذا تناسق موقف الأحزاب اليمينية المتطرفة مع المزاج الشعبي العام في أوروبا تجاه موقف تكتل بروكسل من الدعم الأوروبي لأوكرانيا في مواجهة روسيا، علاوة على السياسات التقليدية الحاكمة لأوروبا أسهمت بشكل كبير في صعود تيار اليمين المتطرف في أغلب الدول الأوروبية.

2- مناهضة تدفق اللاجئين: يصف السياسي الهولندي مايندرت فينيما أحزاب اليمين المتطرف بأنها “أحزاب ضد الهجرة- anti immigration parties” بشكل عام، وهو ما شكل الدافع الأساسي لرفض تدفق اللاجئين من مناطق أفريقيا ودول الشرق الأوسط بالتحديد، والتي تعاني من جراء الصراعات العسكرية المسلحة في أعقاب الربيع العربي، إذ برر اليمين المتطرف موقفه ذلك بأن تدفق اللاجئين يهدد الهوية الأوروبية ويعزز من تنامي ظاهرة الجريمة المنظمة ويهدد الأوروبيين بالبطالة وانتشار الجريمة، في ظل تنامي المخاوف من ظاهرة “الإسلاموفوبيا”، وهو المصطلح الذي انتشر بشكل كبير خلال السنوات العشر الماضية.

وعلى وقع تلك الآراء طالبت أحزاب يمينية متطرفة في أوروبا بضرورة رفع الرقابة عن الوكالة الأوروبية لحرس الحدود المسماة بـ””الفرونتكس”، لتعزيز حضورها في العمق الأفريقي لمنع تدفق اللاجئين من المنبع قبل بدء تحركهم تجاه أوروبا. وتعد تلك النقطة بالتحديد نقطة توافقية بين أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا وبرنامج الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي تناسقت أفكاره وبرنامجه مع تطلعات اليمين المتطرف في أوروبا، فيما يصعد نجمه حاليًا في سباق الانتخابات الرئاسية الأمريكية المرتقبة في نوفمبر من العام الجاري.

3- الحرب الروسية الأوكرانية: مثلت الحرب الروسية الأوكرانية أحد العوامل التي أسهمت في بروز اليمين المتطرف في أوروبا، في ظل رفض تلك الأحزاب المتناسق مع الرفض الشعبي الكبير لاستمرار الدعم المالي والعسكري من أوروبا لأوكرانيا في ظل عدم وضوح الأفق بشأن نهاية تلك الحرب من جانب واعتبار البعض أن تلك الحرب وضعت دول أوروبا في ورطة بلا مخرج من جانب آخر، علاوة على وجود أصوات داخل أحزاب اليمين المتطرف تطلب التفاوض مع روسيا بدلًا من استمرار الحرب، وأصواتًا أخرى أقرب لروسيا من أوكرانيا، وأبرز هذه الأحزاب “التجمع الوطني” في فرنسا والذي تتزعمه مارين لوبان، وحزب “فلامس بيلانج” في بلجيكا، علاوة على حزب “الحرية” في النمسا، وهي جميعها من الأحزاب التي تطلب مغادرة تكتل بروكسل أسوة ببريطانيا.

وأبرز الشواهد على ذلك استخدام فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر ورئيس حزب فيديسز اليميني حق النقض لمنع إمداد أوكرانيا بمساعدات بقيمة 50 مليار يورو خلال قمة الاتحاد الأوروبي في بروكسل عام 2023، كما رفضت بولندا استمرار دعمها العسكري لأوكرانيا بحجة تعزيز قدراتها الدفاعية.

4- تراجع الدور الأوروبي أمام الدور الأمريكي والصيني: شكل هذا العام فارق كبير في تحرك الأحزاب اليمينية المتطرفة حيال بعض القضايا، وتحديدًا غياب الدور الأوروبي إذا غاب نظيره الأمريكي في قضايا إستراتيجية أبرزها الانسحاب الأمريكي من العراق وأفغانستان، وهو الانسحاب الذي لم يكن له صدى أوروبي بإعادة انتشار أوروبي يغطي الغياب الأمريكي، فضلًا عن صعود التنين الصيني في الشرق الأوسط والذي بات يخصم من النفوذ الأمريكي والأوروبي بالتبعية، وهو ما سمح للصين بعقد شراكات استراتيجية واقتصادية مع دول الخليج على وجه التحديد، وتعداها إلى توسط الصين في تقريب وجهات النظر بين إيران والسعودية، في ظل تعقد الموقف الإيراني المواجه لأمريكا وأوروبا بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي عام 2018، وفرض عقوبات أمريكية وأوروبية على إيران. وهو ما جعل التمدد الصيني وتراجع دور أوروبا وتبعيته لواشنطن يشكل مخاوف أوروبية لها سياق عالمي يبرز حجم التبعية الأوروبية للولايات المتحدة تجاه قضايا الشرق الأوسط، وهو ما يعبر عن تجمد دور “القارة العجوز” الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي.

برنامجها الانتخابي: 

تتفق الأحزاب اليمنية المتطرفة على نقاط عدة تبلور نظرتها فيما يتعلق بالداخل والخارج الأوروبي، أبرزها أن تلك الأحزاب تناهض الأقليات وتعادي الأجانب وعلى أساسه ترفض تدفق اللاجئين الذين ترى أنهم يهددون الهوية الأوروبية، وهي القاعدة الأساسية لأي برنامج انتخابي لأي حزب تابع لليمين المتطرف.

كما ترفض تلك الأحزاب الاندماج مع تكتل بروكسل، وهو ما يشير إلى أن صعود اليمين المتطرف في أوروبا قد يحمل في طياته نهاية للاتحاد الأوروبي، وقد تطلب الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تمكنت من الدخول إلى البرلمان الأوروبي انسحاب بلادها من التكتل أسوة بما فعلته المملكة المتحدة في يناير 2020.

كما تدعو تلك الأحزاب لتقليص الضرائب على المواطنين الأوروبيين وهو ما جذب إليها قطاع كبير من الأوروبيين، كما تدعو لتشديد العقوبات على الجرائم الجنائية، وترفض إجراءات حماية البيئة، وهي القضية التي احتلت مكانة بارزة مؤخرًا وعقدت لها المؤتمرات في عدة دول بالعالم لمواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض.

وتدعو البرامج الانتخابية لأحزاب اليمين المتطرف إلى الانكفاء على حل الأزمات الداخلية للدول الأوروبية والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية بدلًا من الغوص في المشاكل والحروب الخارجية، ورفض التبعية الأوروبية للولايات المتحدة لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط على حساب أوروبا وبتكلفة منها.

توجهاتها السياسية والفكرية

تشترك الأحزاب اليمينية المتطرفة في أفكار محددة تبلور إطارها السياسي بشكل عام، وتجعل من تلك الأحزاب المتجانسة فكريًا إلى حد كبير تيارًا متجانسًا في توجهاته السياسية والفكرية، وأبرز تلك التجليات هي اشتراك الأحزاب اليمينية المتطرفة في رفض الاتحادات السياسية مع الآخرين سواء التكتلات السياسية الداخلية أو العالمية أو القارية، وهو ما يشير إلى رفضها فكرة الاندماج السياسي الذي يخصم من رصيدها لصالح آخرين، تمامًا كما هو الحال في حلف شمال الأطلسي “الناتو” مثلا، والذي تستفيد منه الولايات المتحدة الأمريكية أكثر مما تستفيد منه أوروبا، إذ تراجع دور واشنطن مثلًا في دعم دول أوروبا بعد تعرض شرق القارة العجوز للهجوم الروسي، ورفعت واشنطن شعار “الحرب حتى آخر جندي أوكراني”.

كما تشترك الأحزاب اليمينية المتطرفة جميعها في رفض المهاجرين وبالتحديد الأفارقة والمسلمين، خوفًا على تفكك التجانس الأوروبي ورفضًا لأي قيم جديدة يمكن أن تحل محل القيم الأوروبية القومية، وللحفاظ على الهوية الأوروبية. 

وترفض ايضا الرأسمالية القائمة على الأفكار الليبرالية الجديدة، وتعتبر أن الرأسمالية هي سبب رئيس في الأزمات العالمية وأبرزها الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم عام 2008، وهي الأزمة نفسها التي استندت إليها الأحزاب اليمينية المتطرفة في التسويق لنفسها ولمعاداتها للمجتمعات الاستهلاكية.

في المجمل.. يمكن القول أن صعود تيار اليمين المتطرف هو انعكاس لرغبة المواطن الأوروبي في تصعيد هذا التيار بعينه، أو حتى أن تصويته الشعبي للتيار جاء تصويتًا عقابيًا للأحزاب التقليدية والقومية التي حكمت أوروبا خلال السنوات الماضية، كما تعكس النتيجة إيمان المواطن الأوروبي – في كثير من الأحيان – بأفكار اليمين المتطرف بعد فشل تيار الوسط واليسار في إحداث تغييرات مهمة في حياة المواطن الأوروبي، وفي ظل عدم وجود قيادة حكيمة غير تابعة للولايات المتحدة الأمريكية وإن تناسقت المواقف مع واشنطن في بعض الأحيان.

جذبت أفكار اليمين المتطرف كتخفيض الضرائب على المواطنين، والتي رأى المواطن الأوروبي أنها تذهب للحرب الأوكرانية التي قضت على آمال الأوروبيين بارتفاع مستوى المعيشة بعد جائحة كورونا التي تسببت في خسائر اقتصادية وبشرية كبيرة للقارة العجوز، علاوة على رغبة الأوروبي للاستنزاف الاقتصادي الكبير نتيجة الإنفاق الكبير على مواجهة روسيا، علاوة على تراجع الدور الأوروبي في الشرق الأوسط إذا ما قورن بالدور الأمريكي.

يحمل كل ذلك نذير شؤم على تكتل دول الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد أن خرجت بريطانيا مؤخرًا وفي ظل دعوات قد تطفو على السطح من نواب الأحزاب اليمينية المتطرفة بانسحاب بلادها من التكتل، وهو ما قد يعرضه للتفكك والانهيار ويتبعه في ذلك حلف الناتو الذي يعاني الاستنزاف المستمر في أوكرانيا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *