المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / انتخابات هولندا 2025: اليمين والمهاجرون الجدد

انتخابات هولندا 2025: اليمين والمهاجرون الجدد

انتخابات هولندا 2025: اليمين والمهاجرون الجدد

تعيش هولندا هذه الأسابيع أجواءً انتخابية مشحونة مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في 29 اكتوبر الجاري 2025، حيث تتصاعد حدة المناظرات بين الأحزاب السياسية الكبرى حول قضايا تمسّ صميم الحياة اليومية للمواطنين والمقيمين على حدٍّ سواء. وتأتي هذه الانتخابات في سياق سياسي واجتماعي حساس، بعد انهيار الائتلاف الحكومي السابق نتيجة الخلافات حول سياسات الهجرة واللجوء، الأمر الذي جعل ملف الهجرة يتصدر النقاش العام مجددًا. وتزداد أهمية هذه الدورة الانتخابية نظرًا لدورها في تحديد الاتجاه السياسي للبلاد بين الانفتاح والاعتدال من جهة، أو الانغلاق وصعود الخطاب اليميني من جهة أخرى.

المناظرات والبرامج السياسية للأحزاب

شهدت المناظرة الأخيرة بين الأحزاب الهولندية طابعًا حادًّا يعكس حجم التباين في الرؤى حول القضايا الوطنية الكبرى. ففي الوقت الذي يسعى فيه حزب الحرية (PVV) بقيادة خيرت فيلدرز إلى تشديد سياسات اللجوء وتقليص لمّ شمل الأسر وتقييد منح الجنسية، تبنّت أحزاب يمينية وسط معتدلة مثل الشعب من أجل الحرية والديمقراطية (VVD) وJA21 مواقف أكثر حذرًا لكنها لا تخلو من التشدد في ملف الهجرة، مبرّرة ذلك بالضغط الذي تسببه على سوق الإسكان والخدمات العامة.

في المقابل، برزت أحزاب اليسار مثل GroenLinks-PvdA (التحالف بين حزب اليسار الأخضر وحزب العمل) بمواقف تدعو إلى سياسات متشددة ولكنها منضبطة تجاه اللاجئين والمهاجرين تراعي كافة الابعاد القانونية مع التسليم باهمية المضي في اجراءات التشديد واعادة النظر في كل مشاريع الاستمرار في استقبال اللاجئين، مؤكدة أن الحلول لا تكمن في الإقصاء بل في تحسين آليات الاندماج وتوسيع فرص العمل والتعليم.

بينما يسعى حزب الديمقراطيين المسيحيين (CDA) أحد أقدم الأحزاب الهولندية وأكثرها تجذرًا في الحياة السياسية إلى استعادة ثقة الطبقة الوسطى والمناطق الريفية عبر التركيز على قضايا الأمن، والتعليم، والأسرة، وتعزيز الانتماء الوطني. وفي الوقت نفسه، يحاول CDA الحفاظ على مسافة من اليمين الشعبوي المتشدد، متمسكًا بنهج واقعي في قضايا الهجرة والاندماج، حيث يدعو إلى سياسات منضبطة لكن غير إقصائية، تقوم على ضبط الحدود وتنظيم اللجوء دون المساس بالكرامة الإنسانية. ومع اشتداد المنافسة بين أحزاب الوسط واليمين، يتطلع الحزب إلى لعب دور “الجسر السياسي” القادر على بناء تحالفات حكومية مستقرة، تجمع بين الكفاءة الاقتصادية والمسؤولية الاجتماعية. وبهذا المعنى، يمكن القول إن CDA يسعى في انتخابات 2025 إلى استعادة صورته كصوت التوازن والاتزان داخل مشهد سياسي يتجه نحو الاستقطاب.

القضايا المحورية في الحملات الانتخابية

تركّز البرامج الحزبية والمناظرات الحالية على أربع قضايا أساسية:

  1. الهجرة واللجوء: تحوّلت إلى محور الخلاف الأكبر بين الأحزاب، حيث يتنافس اليمين واليسار على تقديم تصورات متباينة لمستقبل سياسة الهجرة، بين من يرى فيها تهديدًا للهوية والثقافة الوطنية، ومن يراها إثراءً للمجتمع والاقتصاد. 
  2. الإسكان وغلاء المعيشة: أزمة السكن وارتفاع الإيجارات والضرائب تشكّل الهمّ الأكبر للناخبين. بعض الأحزاب تربط هذه الأزمة بتزايد أعداد المهاجرين، بينما تؤكد أخرى أن المشكلة بنيوية وتحتاج إلى إصلاحات اقتصادية وتنظيمية. 
  3. الاندماج والهوية: يتناول النقاش كيفية دمج المهاجرين في المجتمع الهولندي مع الحفاظ على قيم الانفتاح والتعددية. وتطرح بعض الأطراف ضرورة تعزيز اللغة الهولندية كشرط للاندماج الكامل، فيما ترفض أخرى فرض شروط ثقافية صارمة على المهاجرين. 
  4. الاقتصاد والرعاية الاجتماعية: تختلف الأحزاب في رؤيتها للسياسات الضريبية والإنفاق الاجتماعي، ما بين توسيع دعم الطبقات الوسطى والضعيفة، أو تخفيف العبء عن أصحاب الأعمال لتحفيز النمو الاقتصادي. 

صعود اليمين وتحول الخطاب السياسي

تشير التحليلات الأخيرة إلى أن الخطاب السياسي العام في هولندا يتجه تدريجيًا نحو اليمين، خصوصًا فيما يتعلق بملف الهجرة. وقد ساهمت الأزمات الاقتصادية والضغوط الاجتماعية في تعزيز حضور الأحزاب الشعبوية التي تستخدم لغة الخوف والتهديد والكراهية لاستقطاب الأصوات. ومع ذلك، فإن هذا التحول لا يعكس بالضرورة رغبة عامة في الانغلاق، بقدر ما يعكس شعورًا متزايدًا بعدم الأمان الاجتماعي ورغبة في التغيير.

ورغم أن أحزاب الوسط واليسار تحاول مواجهة هذا المدّ عبر التركيز على قيم التعايش والمواطنة، إلا أن نجاحها يعتمد إلى حد كبير على قدرتها في حشد الفئات الصامتة، وخاصة المهاجرين الجدد الذين ما زال حضورهم الانتخابي ضعيفًا.

أهمية المشاركة السياسية للمهاجرين الجدد

تُعدّ مشاركة المهاجرين الجدد في العملية الانتخابية أمرًا جوهريًا لتوسيع التمثيل الديمقراطي وتحقيق التوازن داخل المجتمع الهولندي المتعدد الثقافات. فهؤلاء يشكّلون نسبة متزايدة من سكان المدن الكبرى مثل أمستردام وروتردام ولاهاي، وهم أكثر الفئات تأثرًا بسياسات الإسكان والتعليم واللغة والعمل.

إن عدم مشاركتهم الفاعلة يفتح المجال أمام أطراف أخرى لتحديد مصيرهم دون صوتهم، كما يتيح للأحزاب اليمينية توظيف غيابهم كدليل على “فشل الاندماج”. لذلك فإن انخراطهم في الانتخابات لا يمثل مجرد حق سياسي، بل واجبًا مدنيًا لحماية مكتسباتهم وتعزيز حضورهم في المجتمع.

كما أن متابعة المناظرات السياسية والمشاركة في النقاش العام تمكّن المهاجرين من فهم التوجهات العامة وصياغة مواقف مستنيرة، بما يساعدهم على اتخاذ قرارات تصويتية مسؤولة. فالمعرفة بالبرامج السياسية تمنح الناخب القدرة على تمييز الشعارات من السياسات الواقعية، وتجنّبه الوقوع في فخ الدعاية أو الوعود الشعبوية.

الخاتمة

تُظهر الانتخابات الهولندية لعام 2025 أن الديمقراطية الهولندية تمر بمرحلة مفصلية، حيث تتقاطع فيها التحديات الاقتصادية والاجتماعية مع أسئلة الهوية والانتماء. المناظرات المحتدمة بين الأحزاب تعكس حيوية المشهد السياسي لكنها في الوقت نفسه تكشف هشاشة التوازن بين الانفتاح والانعزال.

في هذا السياق، تبرز أهمية المشاركة الواعية للمهاجرين الجدد كعامل حاسم في ترسيخ قيم الديمقراطية والتعددية، وكوسيلة لمواجهة موجة اليمين المتصاعد. فالديمقراطية لا تُصان بالصمت، بل بالمشاركة والفهم، وبالإيمان بأن لكل صوت تأثيرًا في رسم مستقبل البلاد التي أصبحت وطنًا للجميع.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *