الانتخابات الهولندية: انحسار اليمين المتطرف وصعود صوت العقل

شهدت هولندا يوم أمس واحدة من أكثر الانتخابات البرلمانية إثارة منذ سنوات، حيث كشفت النتائج عن تراجع حاد لليمين المتطرف الذي كان يهيمن على المشهد السياسي خلال الفترة الماضية. فبعد أن حصد هذا التيار 37 مقعدًا في الانتخابات السابقة، لم يتمكن هذه المرة إلا من الحصول على 26 مقعدًا فقط، في انخفاض يُقدّر بحوالي 30% من قوته التصويتية.
هذا التراجع لم يكن حدثًا عابرًا أو رقميًا فحسب، بل يمثل تحولًا نوعيًا في المزاج السياسي الهولندي، ورسالة واضحة من الناخب إلى القوى السياسية: إن الخطاب القائم على الكراهية والتخويف من الآخر لم يعد مقبولًا في بلد يعتز بتعدديته وتعايش مكوناته.
من الكراهية إلى الواقعية
لقد بنى اليمين المتطرف حملاته في السنوات الأخيرة على استهداف المهاجرين، والتشكيك في سياسات اللجوء، والتحريض ضد الإسلام، مستغلًا حالة القلق الشعبي من الأزمات الاقتصادية والضغوط المعيشية. لكنه أخطأ التقدير حين ظن أن هذا الخطاب يمكن أن يستمر دون تكلفة سياسية.
ففي حين انشغل رموز اليمين بتغذية مشاعر الخوف والانقسام، كان المواطن الهولندي العادي يعيش واقعًا مختلفًا: ارتفاع الإيجارات، أزمة سكن خانقة، ضغط متزايد على الخدمات الصحية، وتحديات في سوق العمل والطاقة. كل هذه الملفات الجوهرية تم تجاهلها أو تهميشها في الخطاب اليميني الذي فضّل توجيه أصابعه نحو المهاجرين بدل البحث عن حلول حقيقية.
صوت العقل يعلو
في المقابل، استطاعت أحزاب الوسط واليسار المعتدل أن تقدم نفسها كبديل واقعي ومتوازن. فخطابها الذي ركز على الاستقرار الاقتصادي، والتعاون السياسي، وتحسين الخدمات العامة بدا أقرب إلى هموم الناخبين اليومية، وأكثر قدرة على إقناع الطبقة الوسطى والناخبين المترددين.
لقد برز هذا التحول في صناديق الاقتراع حين اتجهت شرائح واسعة من الناخبين نحو أحزاب تؤمن بالتعددية والبراغماتية السياسية، لا بالشعبوية والمبالغات.
هذا التحول يعكس نضجًا سياسيًا ملحوظًا في المجتمع الهولندي، الذي بدا وكأنه يقول بوضوح: نريد حكومة تدير البلاد بالعقل لا بالعاطفة، وبالمنطق لا بالتحريض.
ما بعد الانتخابات: الحاجة إلى الاستقرار
المرحلة المقبلة ستكون حاسمة لهولندا. فبعد سنوات من الانقسام السياسي وصعوبة تشكيل الحكومات، تبدو الحاجة اليوم ماسة إلى تحالفات متوازنة تجمع بين قوى الوسط واليسار المعتدل لضمان الاستقرار.
التحديات أمام الحكومة القادمة كبيرة: معالجة أزمة السكن، تعزيز النظام الصحي، مواجهة الغلاء، وإدارة ملف المهاجرين بواقعية وإنسانية. فالقضية ليست في رفض المهاجرين أو استقبالهم دون تنظيم، بل في إدارة الملف بعقلانية توازن بين الأمن والإنسانية، وبين القانون والرحمة.
كما أن على القوى السياسية أن تدرك أن الناخب الهولندي بات أكثر وعيًا، وأكثر قدرة على التمييز بين من يسعى للحل ومن يكتفي بالصراخ.
خاتمة
ما جرى في هذه الانتخابات ليس مجرد تبدل في الأرقام، بل عودة للمنطق والعقل إلى قلب السياسة الهولندية. لقد اختار الهولنديون أن يمنحوا أصواتهم لمن يؤمن بأن الاستقرار لا يأتي من التطرف، وأن الوطنية لا تُقاس بعداء الآخر، بل بقدرة الدولة على حماية الجميع دون تمييز.
إن الرسالة التي بعثها الناخب الهولندي للعالم هي أن الديمقراطية الحقيقية قادرة دائمًا على تصحيح مسارها، وأن الشعب حين يتحدث — بصوتٍ هادئٍ وواضح — فإن التطرف يصمت، والعقل ينتصر.

 
 
 


