المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / الاسباني سانشيز.. صوت الضمير الأوروبي في وجه العاصفة الترامبية

الاسباني سانشيز.. صوت الضمير الأوروبي في وجه العاصفة الترامبية

الاسباني سانشيز.. صوت الضمير الأوروبي في وجه العاصفة الترامبية

د.جمال محسن*

في زمنٍ تتعالى فيه أصوات القوة، ويتسابق الزعماء لنيل رضا واشنطن، وقف “بيدرو سانشيز” رئيس وزراء إسبانيا، في قمة الناتو التي عُقدت في مدينة لاهاي، ليعلن موقفًا مغايرًا. رفضٌ صريح لقرار رفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وموقف إنساني يعيد طرح أسئلة جوهرية عن مستقبل أوروبا، وعن دور الحلف الأطلسي، وعن الكرامة في زمن المصالح.

قمة الناتو في لاهاي: لحظة الحقيقة الأوروبية

انعقدت قمة حلف الناتو في لاهاي في ظل أجواء مضطربة عالميًا، وخرجت بقرارات وصفت بـ”التاريخية”، وأبرزها قرار رفع ميزانية الدفاع إلى 5% من الناتج القومي. لكن من بين قادة أوروبا، كان هناك صوت واحد فقط اختار أن يقول “لا” لهذا القرار: بيدرو سانشيز.

وبينما احتفى الإعلام الغربي بمساعي تعزيز قدرات الناتو، قال سانشيز شيئًا مختلفًا، أكثر قربًا من هموم الشعوب:

“كيف يمكنني أن أشرح لمواطني أن عليهم دفع 6000 يورو إضافية سنويًا من أجل خطر لم يُثبت؟”

بهذه الكلمات، أعاد النقاش إلى جوهره: من يتحمل الكلفة؟ ولمصلحة من تُتخذ هذه القرارات؟ وما حدود التضحية في زمن الأزمات الاجتماعية؟

اليسار الأوروبي في مواجهة الناتو: خلفية بيدرو سانشيز السياسية

سانشيز ليس زعيمًا طارئًا على السياسة الإسبانية. بل هو سياسي يساري يقود الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني (PSOE)، ويتمتع بخلفية فكرية تضع العدالة الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان في صلب قراراته. وهو أحد أبرز وجوه اليسار الأوروبي الذين تمسكوا بأدوار الدولة الاجتماعية، ورفضوا تحميل الفقراء ثمن المغامرات العسكرية أو التوسع الجيوسياسي.

ولذلك، فإن موقفه من الإنفاق العسكري ليس رفضًا عابرًا، بل استمرارية لمشروعه السياسي الذي حقق من خلاله إنجازات بارزة في الداخل الإسباني.

إنجازات بيدرو سانشيز في إسبانيا: شرعية الموقف من الداخل

خلال سنوات حكمه، استطاع سانشيز أن يغيّر صورة إسبانيا اقتصاديًا واجتماعيًا:

  • رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة قياسية.
  • خفض معدلات البطالة التي كانت الأعلى في الاتحاد الأوروبي.
  • تعزيز الاستثمار في قطاع الطاقة المتجددة.
  • إطلاق إصلاحات واسعة لمحاربة الفساد.
  • سن قوانين تعزز المساواة وحماية حقوق العمال.
  • تحسين ثقة الأسواق الدولية في الاقتصاد الإسباني.

هذه الإنجازات، التي كانت صدى لنهج اجتماعي واقعي، جعلت موقفه في قمة الناتو أكثر من مجرد اعتراض… بل صرخة عقل وضمير.

سياسات الدمج: كيف جعل سانشيز من المهاجرين فرصة لا تهديدًا؟

في الوقت الذي تتجه فيه العديد من الحكومات الأوروبية نحو تقييد سياسات الهجرة، وتمارس الأحزاب اليمينية الشعبوية ضغوطًا على المهاجرين وتحمّلهم مسؤولية كل إخفاق، اختار سانشيز مسارًا مختلفًا.

سياساته ركزت على:

دمج اللاجئين والمهاجرين في سوق العمل، الاستثمار في التعليم والتدريب المهني للمهاجرين، خلق بيئة قانونية آمنة تحفّز الانخراط المجتمعي، تقديم اللاجئين كشركاء لا كعبء.

وقد أدت هذه السياسات إلى نتائج ملموسة، أبرزها انخفاض الجريمة في الأحياء الهامشية، وارتفاع نسب الاندماج، وزيادة مساهمة المهاجرين في قطاعي الزراعة والرعاية الصحية، مما دعم الاقتصاد بدلًا من إثقاله.

سيناريوهات الضغط والعقوبات الأمريكية: عندما يغضب ترامب

رفض سانشيز لمطلب ترامب برفع الإنفاق الدفاعي لم يكن بلا ثمن.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لا ينسى من يقول له لا، وقد لوّح بفرض إجراءات عقابية على إسبانيا إذا استمرت في “التمرد”.

من بين السيناريوهات المحتملة:

  • فرض رسوم جمركية مرتفعة على صادرات النبيذ وزيت الزيتون الإسباني، وهما من الركائز الأساسية للصادرات الإسبانية إلى أمريكا.
  • تقليص الوجود العسكري الأمريكي في القواعد الإسبانية، ما يُضعف الدور الجيوسياسي لمدريد.
  • استبعاد إسبانيا من مشاريع دفاعية وتكنولوجية استراتيجية داخل الناتو.
  • تأليب الرأي العام الإسباني من خلال حملات موجهة عبر منصات التواصل الاجتماعي، والتي يتابعها ملايين الإسبان.

وهكذا، لا تبدو المواجهة اقتصادية فقط، بل سياسية وإعلامية بالكامل.

الحرية لا تتجزأ… والكرامة أثمن من الإجماع

موقف سانشيز في قمة لاهاي ليس لحظة سياسية عابرة. بل هو إعلان أخلاقي مفاده أن:

لا يمكن المطالبة بحرية السوق وتجاهل الحرية في التعليم والصحة والكرامة.

لا يمكن تمرير قرارات تاريخية بهذا الحجم دون الرجوع إلى الشعوب وممثليهم الحقيقيين.

لا يمكن تحويل أوروبا إلى محفظة مالية تُملى عليها قرارات واشنطن، في ظل تراجع المشروع الديمقراطي حتى داخل الاتحاد الأوروبي نفسه.

الزعامة الحقيقية لا تأتي من التصفيق، بل من القدرة على قول “لا” عندما تصبح “نعم” خيانة للضمير.

ختامًا: سانشيز في ميزان التاريخ

قد يخسر سانشيز معركة سياسية، وقد يواجه ضغوطًا من اليمين الإسباني والدولي، وقد تُستخدم ضده كل أدوات الإعلام والسوشيال ميديا، لكنه فاز بشيء نادر في السياسة الحديثة:

أن يكون ضمير أوروبا حين صمتت أصواتها، وأن يذكّرنا بأن العدل لا يُشترى بالدبابات، وأن الكرامة لا تُقايض بالأمن.

قمة الناتو في لاهاي كانت لحظة فارقة… وكان “بيدرو سانشيز” هو الرجل الوحيد الذي وقف ضد العاصفة، لا لأنه أقوى من العاصفة، بل لأنه أكثر صدقًا في تمثيل من أرسلته: الشعوب، لا العواصم.

*اكاديمي وقاضي يمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *