استقالة فيلدرز: بين وهم محاربة اللجوء وخدمة مصالح الكبار

في خضم الحديث المتصاعد عن استقالة خيرت فيلدرز المفاجئة من إئتلاف الحكومة، سارع كثيرون إلى تبني السردية التي روّج لها حزبه: أن الانسحاب جاء بسبب عدم قدرته على تنفيذ مطالبه العشرة المتعلقة بالحد من اللجوء، وأنه “أُفشل” من قبل الأحزاب الأخرى في تحقيق وعده الانتخابي بإيقاف موجات اللجوء التي “تهدد” هولندا، على حد زعمه.
لكن قراءة متأنية لتوقيت الاستقالة، وظلالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تشير إلى رواية مختلفة تمامًا وأكثر عمقًا، ترتبط بمصالح طبقية واضحة لا علاقة لها باللاجئين، بل بالمواطن الهولندي العادي، الفقير والمتوسط الدخل، الذي يُدفع مجددًا نحو مزيد من الأعباء، فيما تستمر مصالح الشركات الكبرى في الاتساع.
التوقيت المشبوه: قبل تنفيذ قانون لصالح المواطنين
وقعت الاستقالة قبل أيام فقط من المصادقة النهائية على قانون كان من شأنه إيقاف الزيادة السنوية في إيجارات السكن الاجتماعي. وهي زيادة تقدر بحوالي 5% كان يُفترض أن يتم إلغاؤها لحماية الفئات الضعيفة ومحدودي الدخل.
ولم يكن هذا كل شيء. فقد كان من المنتظر أيضًا أن تُرافق هذه الخطوة بزيادة في بدل السكن (huurtoeslag) تعادل نفس نسبة الزيادة، بحيث لا يشعر المواطن بأي عبء إضافي، خصوصًا الأسر التي تنفق نسبة كبيرة من دخلها على الإيجار. كما كان هناك مشروع لتقديم دعم غذائي شهري بقيمة 200 يورو للأسر ذات الدخل المنخفض، بهدف تخفيف آثار التضخم وارتفاع الأسعار.
لكن استقالة فيلدرز جمّدت هذه الإجراءات كلها، وأبقت على زيادة الإيجارات، دون أي تعويض فعلي في بدل السكن، مما يعني فعليًا أن آلاف الأسر الهولندية ستدفع ما يعادل 10% من دخلها في صورة أعباء إضافية: زيادة في الإيجار من جهة، وغياب الدعم من جهة أخرى. هذا لا يؤثر فقط على الفقراء، بل يمتد تأثيره إلى الطبقة الوسطى التي تمثل العمود الفقري للمجتمع.
من المستفيد الحقيقي؟
السؤال الذي يطرح نفسه: من المستفيد من إجهاض هذه الحزمة الداعمة للمواطنين؟ الجواب لا يكمن في “اللاجئين” كما يروّج فيلدرز، بل في مصالح شركات الإسكان الكبرى التي تحوّلت إلى كيانات تجارية منذ أن بدأ حزب فيلدرز وحلفاؤه بالدفع نحو خصخصة هذا القطاع الحيوي.
فبدل أن تعمل هذه الشركات على تلبية احتياج المجتمع من السكن اللائق والميسّر، باتت ترفع الإيجارات سنويًا، وتستفيد من غياب الرقابة الفعلية وضعف التدخل الحكومي. وفي الوقت الذي كان من الممكن أن يحد القانون المزمع من هذه الأرباح، جاءت الاستقالة لتمنحهم مهلة جديدة من المكاسب.
فيلدرز ونموذج الاقتصاد النيوليبرالي
إن سياسات فيلدرز ليست “ثورية” كما يحاول تصويرها، بل هي في صميم النموذج النيوليبرالي القديم الذي يكرر معزوفة: خفض الضرائب على الأغنياء، محاربة النقابات، تقليص دور الدولة، وخصخصة كل شيء. كما يدعو حزبه للانسحاب من اتفاقيات المناخ وحقوق الإنسان، لأنها “تُقيد” الشركات في سعيها وراء الأرباح.
هذا النموذج لا ينتج إلا مجتمعات مفككة، تتسع فيها الفجوة بين الغني والفقير، ويُدفع فيها المواطن البسيط لتحمل نتائج فشل السوق في توفير أبسط الخدمات الأساسية كالسكن والنقل والتعليم.
هل اللاجئون هم السبب الحقيقي؟
من السهل تحميل اللاجئين مسؤولية كل شيء، وهي حيلة شعبوية استخدمها فيلدرز مرارًا. لكن الحقيقة أن مشكلات القطارات والإضرابات وفشل خطط السكن ومشاكل الرعاية الصحية ليست بسبب اللاجئين، بل بسبب سياسات اقتصادية قصيرة النظر. فرفض طلبات النقابات، وعرقلة قوانين دعم الفئات الضعيفة، كلها قرارات لا علاقة لها باللجوء، بل بمواجهة الفقراء نيابة عن الشركات.
ولعل اللافت أن توقيت الاستقالة جاء قبل أسابيع قليلة من قمة الناتو، ما يعني أن الاستقالة لم تكن ضرورة سياسية أو أمنية، بل مناورة حزبية لتجديد الشعبية عبر ادعاء المظلومية.
استقالة فيلدرز لم تكن صدمة حقيقية بقدر ما كانت كاشفة: لقد اختار أن يترك المواطن وحده في مواجهة الغلاء، بدلًا من مواجهة مصالح الشركات الكبرى. وفي الوقت الذي كانت فيه العائلات تنتظر دعمًا يحميها من أعباء متزايدة، أدار فيلدرز ظهره لهم، وفضّل الهروب إلى الأمام بشعارات “طرد اللاجئين”.
لكن الحقيقة الواضحة أن المستفيدين من انسحابه ليسوا الهولنديين البسطاء، بل حفنة من الرأسماليين الذين يستمر حزب فيلدرز في خدمة مصالحهم… باسم الشعب.