المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / إيطاليا التي لا تُخدع.. دروس من شعبٍ عريق يبني الجسور لا الجدران

إيطاليا التي لا تُخدع.. دروس من شعبٍ عريق يبني الجسور لا الجدران

إيطاليا التي لا تُخدع.. دروس من شعبٍ عريق يبني الجسور لا الجدران

إيطاليا، تلك الأرض التي نطقت أولى كلمات الحضارة، لم تكن يومًا مجرد حدود مرسومة على الخريطة، بل كانت ولا تزال قلبًا نابضًا للإنسانية، وروحًا خالدة في ضمير العالم. هنا وُلدت الإمبراطوريات، وهنا رُسمت الخطوط الأولى للديمقراطية التي غدت شعلةً أضاءت دروب الحرية لشعوب الأرض.

هي بلاد المكرونة والبيتزا، الفيراري واللامبورغيني، لكنها قبل كل هذا وبعده، هي بلاد العباقرة الذين نحتوا الجمال من الحجر وأطلقوا الفكر من عقاله. ليوناردو دافنشي، مايكل أنجلو، رافائيل… أسماءٌ لا تموت، لأنها كانت وما زالت تُعبر عن روح أمة صنعت من الفن رسالة، ومن الذوق أسلوب حياة.

ولكن ما يجعل إيطاليا استثنائية بحق ليس ماضيها فقط، بل حاضرها الإنساني، وشعبها النبيل. لقد عرفته عن قرب. رأيت الإيطالي البسيط يفتح بيته للغريب، ويُعد له مائدة الطعام كما لو كان أحد أفراد العائلة. رأيت سكان الجنوب، في صقلية وكامبانيا، يستقبلون اللاجئين لا كضيوف عابرين، بل كأبناء جدد لهذا الوطن العظيم. يقدمون لهم الأثاث، يرافقوهم في خطواتهم الأولى، ويمنحوهم شعورًا بالأمان قلّ أن يُمنح في زمنٍ امتلأ بالخوف.

ورغم حملات الكراهية الممنهجة التي تشنّها أحزاب اليمين المتطرف، ورغم ما تصدّره وسائل الإعلام الموالية لهم من شعارات مفرغة تزرع الشك وتؤجج الفزع، فإن الشارع الإيطالي الحقيقي لا يزال أنبل من كل ذلك. مدنٌ كاملة أعلنت نفسها “Città dell’accoglienza” – مدن الترحيب – لترسل رسالة واضحة إلى العالم: “نحن لسنا جزءًا من هذا الضجيج.. نحن صوت الضمير”.

بل إن نداء البابا فرنسيس، الرجل الذي يتحدث بلسان الإنسانية، وجد صدى عميقًا في قلوب الإيطاليين، حين قال: “افتحوا الأبواب لا تغلقوها، ابنوا الجسور لا الجدران.”

وفي لحظة تاريخية، نهض الشعب الإيطالي من تحت عباءة الصمت، وجمع أكثر من أربعة ملايين توقيع في حملة مدنية جبارة دفعت المحكمة العليا إلى الموافقة على إجراء استفتاء يشمل نقاط جوهرية، أهمها:

تسهيل منح الجنسية للأجانب غير الأوروبيين، بتقليص مدة الإقامة من عشر سنوات إلى خمس فقط.

تعزيز حقوق العمال عبر الحد من العقود المؤقتة.

تحسين سلامة مواقع العمل، وتعزيز مسؤولية أرباب الأعمال.

ورغم أن نسبة المشاركة لم تتجاوز 30%، وهو ما حال دون اعتماد نتائج الاستفتاء دستوريًا، فإن دلالاته كانت عميقة ومدوية.

فما كشفه هذا الاستفتاء لم يكن فقط حجم تأييد القضايا العادلة – إذ أيّد 67% من المشاركين تسهيل منح الجنسية، و80% دعموا قوانين حماية العمال – بل كشف فشل سياسات الخوف التي يسوّقها اليمين المتطرف، وأسقط القناع عن أدواته الدعائية: من وسائل الإعلام الكبرى، إلى المنصات الاجتماعية التي باتت ملكًا لأصحاب الأجندات، وعلى رأسها منصة “إكس” التي يتحكم فيها إيلون ماسك، الصديق الشخصي لرئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، وأحد أكبر داعمي اليمين المتشدد في أوروبا.

لقد جرى التلاعب بالرأي العام، وتم تسخير المال والنفوذ والآلة الإعلامية لخلق جو من التردد والتشكيك ومقاطعة الاستفتاء. ومع ذلك، وصل الإيطاليون إلى صناديق الاقتراع وأعلنوا موقفهم: نحن مع العدالة، مع الكرامة، مع الإنسانية.

وإن كان حزب رئيسة الوزراء قد اعتبر انخفاض نسبة المشاركة “انتصارًا سياسيًا”، فإن الحقيقة تقول عكس ذلك تمامًا:

اللجوء لم يتوقف.

محاولات إرسال اللاجئين إلى ألبانيا أُبطلت قضائيًا.

المجتمع الإيطالي أثبت أنه أقوى من الكراهية، وأرحم من دعاة الانغلاق.

أما على المستوى الاقتصادي، فقد أخفقت وعود اليمين المتطرف في تحقيق “المعجزة” المزعومة:

لم تجذب سياساتهم الاستثمارات.

لم يُحقق النمو الاقتصادي المرجو، بل بقيت إيطاليا بين أدنى دول الاتحاد الأوروبي من حيث معدلات النمو.

لم تتمكن الحكومة من الاستفادة الكاملة من خطة الإنقاذ الأوروبية، بسبب التخبط وغياب الرؤية.

ورغم ذلك، قد لا نشهد انتخابات مبكرة قبل 2027، إذ لا تزال المعارضة تفتقر إلى القوة التنظيمية والقدرة على الحشد، في ظل تحكم غير متكافئ في وسائل الإعلام والدعم المالي المهول من أصحاب المصالح الذين يسعون إلى مراكمة الثروات على حساب الفقراء ومتوسطي الدخل.

لكن الحقيقة التي لا يمكن تزويرها هي أن الشعب الإيطالي قد قال كلمته. لقد أرسل رسالةً إلى العالم: نحن لا نُخدع بالشعارات، ولا نبيع ضميرنا مقابل خطاب كراهية.

هذه لحظة فارقة في تاريخ إيطاليا. لحظة تعكس وجهها الحقيقي: بلدٌ لا يزال يؤمن أن الإنسان لا يُقاس بجنسيته، وأن الكرامة حق أصيل لكل من يطرق بابه باحثًا عن ملاذ.

في زمن ترتفع فيه الأسوار وتُغلق الحدود، تذكّرنا إيطاليا أن أبواب الرحمة لا تزال مفتوحة، وأن الشعوب – لا الحكومات – هي التي تصنع التاريخ الحقيقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *