أوروبا.. من أول وحدة جمركية إلى الاتحاد وماذا بعد؟

حافظ قرقوط
لعل عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد مرور أربع سنوات عن ولايته الأولى حاملاً شعار “لنجعل أميركا عظيمة مجدداً” فتحت الشهية لعدد من الأوروبيين كي يتساءلون وهم يتأملون المشهد الانتخابي الأميركي كيف يمكن للاتحاد الأوروبي أن يمارس انتخابات موسعة يرفع فيها المرشحون شعارات تعيد لأوروبا الثقل السياسي والاقتصادي على الخارطة الجيوسياسية.
بالتأكيد أميركا دولة عظمى بغض النظر عما أطلقه ترامب، لكن من المهم أن نعرف ما هي العظمة التي يراها ترامب، هل هي منظومة عسكرية أمنية اقتصادية تتحكم بسياسات العالم أم هي مجموعة حقوق وقوانين تحفظ الكرامة الإنسانية باعتبارها القيمة الأهم ليتم صيانتها من خلال خلق مناخات إيجابية يمكن أن تسخّر العلم والعقل والابتكارات المذهلة، لصالح الوصول إلى حياة إنسانية أفضل تُخرج العالم من مبدأ الغلبة إلى سيادة القانون، أم كلاهما؟
لا شك أن الحرب العالمية الثانية أنهكت أوروبا واستنزفت الكثير من طاقاتها البشرية والمادية لكنها استطاعت أن تنهض بعد تجاوزها للشعارات القومية التي أججت الصراعات البينية لصالح مفاهيم تتعلق بالإنسان. كما أن الطريق الطويل الذي سارت عليه الدول الأوربية منذ نهاية تلك الحرب والذي أدّى بدايةً إلى انبثاق أول وحدة جمركية عبدت طريقها من 1951 إلى 1957 وهو ما أطلق عليه “السوق المشتركة” كمؤسسة اقتصادية أوروبية بجهود كل من ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، بلجيكا، هولندا، لوكسمبورغ، ليبدأ على إثرها العمل للوصول إلى اتحاد سياسي أُنجز في 25 مارس/آذار 1992مستنداً على معاهدة أوروبية تم توقيعها في مدينة ماستريخت الهولندية وبدأ تنفيذها في نوفمبر/ تشرين الثاني 1993. كل ذلك يطرح تساؤلاً أنه بعد مضي تلك السنوات على ذلك الإنجاز الكبير كيف يمكننا النظر إليه بعين مختلفة بعيداً عن حزمة القوانين التي تنظّم العلاقات التجارية والإدارية البينية بقالبها البيروقراطي، وبخاصة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا؟
إن طموح فلاديمير بوتين بإعادة إحياء الامبراطورية الروسية يثير أيضاً التساؤل: كيف لأوروبا التي تجاوزت نكبات الحروب بتلك المعاهدات الهامة في منتصف القرن الماضي أن تتجنب رؤية شبح الحروب والدمار بالجوار. فإذا نظرنا نحو شعار ترامب من جهة وطموح بوتين الذي لا يترك مناسبة إلا ويذكّر الأوربيين بأنه قادر على الأذى وصناعة الأزمات، ونظرنا بالمقابل إلى تناقض السياسات الخارجية والداخلية لدول الاتحاد بسبب إعادة إحياء الروح القومية في بعض الدول ببرامج بعض الأحزاب مستندين على أزمات داخلية في بلدانهم دون النظر إلى حالة الاتحاد وشروط تطويره سنجد أن أوروبا أمام امتحان حقيقي يتعلق بقوة الاتحاد. هذا الأمر يتطلب أن تراجع العديد من الأحزاب الأوروبية خططها وتعمل بروح قيادية تنسجم مع تطلعات الاتحاد، مدعومة ببرامج سياسية واسعة النطاق وخطاب واعٍ وغير أناني ومدرك لأهمية تدعيم أسس الاتحاد وتطويرها لجعله رقماً صعباً في المعادلات الدولية كونه الضامن الأهم لأمن ورفاهية المواطنين.
بالتأكيد خروج بريطانيا من الاتحاد عام 2020 وضعت الاتحاد أمام أسئلة عديدة حول أهميته وديمومته ثم جاءت الأزمات المتلاحقة كوباء كورونا بثقله الصحي والاقتصادي، والحرب الروسية على أوكرانيا وأزمة اللاجئين وموجات تدفقهم نحو أوروبا خلال أكثر من عقد من الزمن وغير ذلك من أمور جعلت الأزمة الاقتصادية تؤثر على السياسات المحلية لدول الاتحاد لينعكس بدوره على برامج الأحزاب داخل الدول لتعكس بدورها سياساتها على سياسة دولها وبالتالي الاتحاد الذي بات يبحث عن سبل سد الثغرات وليس تطوير الذات، لكن أياً كانت تلك الأزمات ومهما تعددت أسبابها أعتقد أنه دون العمل على بناء الروح الجمعية للمواطنين داخل مختلف دول الاتحاد بتبني برامج متنوعة بين الثقافية والتعليمية والحقوقية مع مفهوم الأمن والدفاع المشترك بالتوازي مع الدفع قدماً بسوق العمل الأوروبي الواسع بلا عقبات بيروقراطية يخلق بيئة إيجابية لتطوير مشاريع سياسية على مستوى الاتحاد تتفاعل وتتبنى أفكاراً خلاّقة لأجل اتحاد قوي يشعر مواطنه بأنه ينتمي إليه كقوة عالمية أساسية ينتظر العالم انتخاباتها العامة ويتجاوز الإطار المحلي للدول، وهذا ليس من باب الدعوة للمواجهة مع الآخر بل لتثبيت اتحاد قوي صديق وشريك في صنع السلام والرفاه والاستقرار الدولي ومدافع عن القيم الأوروبية التي تم إنجازها خلال مسيرة طويلة.