أحزاب اليمين من الاندثار إلى البزوغ.. البساطة الشعبوية و سذاجة الحلول

د.جمال حسين
في المشهد الأوروبي المتخم بالخطابات والبرامج، يطل سؤال جوهري كأنه سهم يسعى لاختراق قلب الحقيقة: من هم جمهور اليمين المتطرف؟ وكيف يرسّخ حضوره، رغم مقاومة النخب الثقافية والأكاديمية، ورغم محاولات عزله سياسيًا؟
الإجابة لا تختصر في جملة واحدة، بل تكمن في مثلث متشابك: جمهور محدود التعليم يبحث عن أمان ضائع، خطاب شعبوي بسيط يضرب على أوتار الأمل والخوف، وتحالفات اقتصادية مع رجال الأعمال تُدار خلف الأبواب المغلقة كما لو كانت مسرحية صامتة.
الأرقام هنا أكثر بلاغة من أي وصف. ففي هولندا كشف استطلاع لمركز الأبحاث الاجتماعية والثقافية (SCP) عام 2023 أن 62% من ناخبي حزب الحرية (PVV) الذي يقوده خيرت فيلدرز لا يملكون شهادات جامعية، بينما لم تتجاوز نسبة خريجي الجامعات بينهم 18% فقط. وفي ألمانيا أظهر تقرير لمؤسسة فريدريش إيبرت أن 70% من مؤيدي حزب البديل (AfD) يأتون من خلفيات مهنية متواضعة: عمال مصانع، سائقي شاحنات، عاطلين عن العمل. أما في فرنسا فقد أوضح تحليل انتخابات 2022 أن 58% من ناخبي مارين لوبان ينتمون إلى طبقات عاملة أو عاطلة عن العمل، مقابل 22% فقط من النخب الأكاديمية. هذه اللوحات الاجتماعية المتكررة تكشف عن شعور عميق بأن الامتيازات القديمة في السكن والعمل والرعاية الاجتماعية تتلاشى، وأن قطار العولمة ينطلق تاركًا خلفه من لا يملك ثمن التذكرة.
خطاب اليمين المتطرف لا يتحدث بلغة الاقتصاد المعقد أو القانون البارد، بل بلغة الوجدان البسيط. شعاراته قصيرة وصاخبة مثل صوت الطبول في ساحة المعركة: “استعادة السيطرة”، “إعادة الحقوق للمواطن البسيط”، “وقف الهجرة = حماية الهوية”. إنه خطاب يرتكز على جناحين، الأول يعد الناس بعودة الكرامة والماضي الذهبي، والثاني يزرع الخوف بتصوير الهجرة كغزو، والتعددية كتهديد، والاتحاد الأوروبي كقيد على السيادة. وبين الأمل والخوف يجد المواطن البسيط نفسه وكأن الخطاب صُنع خصيصًا له، يعكس معاناته ويهدهد مخاوفه.
لكن هذه اللغة التي تُسكر الجماهير تصطدم بجدار صلب اسمه النخبة الأكاديمية والثقافية، التي ترى في هذه الشعارات تذكيرًا بخطابات أوروبا المظلمة قبيل الحرب العالمية الثانية. ففي استطلاع أجرته جامعة أمستردام عام 2022، تبين أن 12% فقط من الأكاديميين الهولنديين يؤيدون حزب الحرية (PVV)، بينما 67% منهم يميلون إلى أحزاب يسارية أو خضراء أو وسطية. وكأن النخبة تقول بصوت واضح: هذا ليس مشروعنا. النخب، بما تملك من أدوات تحليلية وذاكرة تاريخية، تدرك أن اللعب على أوتار الهوية والخوف قد يقود القارة مجددًا إلى متاهات القومية المغلقة التي أحرقت أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين.
قوة فيلدرز وأقرانه لا تأتي من جماهيرهم فحسب، بل من قدرتهم على السيطرة على الفضاء الإعلامي. فقد أظهرت بيانات مؤسسة MediaMonitor عام 2023 أن حزب الحرية تصدر المشهد السياسي في هولندا بنسبة ظهور بلغت 31% من إجمالي التغطيات الإعلامية خلال الحملات الانتخابية، متجاوزًا الأحزاب التقليدية. وعلى شبكات التواصل الاجتماعي، أكدت أرقام Statista أن معدل التفاعل مع محتوى حزب الحرية كان أعلى بنسبة 220% مقارنة بالأحزاب المنافسة.
وبعد مرور عامين من هذه الاحصائية نجد اليوم ان هذه الارقام تضاعفت بشكل اكبر فقد استغل حزب الحرية فترة وجوده بالسلطة للمزيد من الهيمنة و هذه الهيمنة لم تأتِ من فراغ، بل من فهم مبكر أن الإعلام ليس مجرد وسيلة بل هو المسرح الذي تُدار عليه السياسة الحديثة، وأن كل دقيقة بث تساوي آلاف الأصوات في صناديق الاقتراع.
ورغم أن خطاب اليمين يبدو ظاهريًا معاديًا لرأس المال، إلا أن الحقيقة أكثر براغماتية. خلف الكواليس، تُعقد التحالفات مع رجال الأعمال على قاعدة المصالح الباردة: تخفيض الضرائب، تقليل البيروقراطية، وتقديم الاستقرار بقبضة حديدية. في فرنسا، كشف معهد مونتاني أن 28% من أصحاب الشركات المتوسطة والكبيرة ينظرون بإيجابية إلى سياسات لوبان الاقتصادية. وفي إيطاليا، أظهرت دراسة لمعهد Cattaneo أن 20% من الصناعيين في شمال البلاد عبّروا عن دعمهم لأحزاب يمينية، خصوصًا حزب الرابطة (Lega). قد يبدو الأمر متناقضًا: خطاب شعبوي يندد بالنخب المالية أمام الجمهور، لكنه في الوقت ذاته يفتح أبواب التفاهم مع تلك النخب ذاتها. غير أن السياسة الحديثة لا تعيش على الشعارات وحدها، بل على التوازن الدقيق بين الرمز والواقع، بين ما يُقال علنًا وما يُتفق عليه سرًا.
ومثلما يسيطر اليمين على الفضاء الإعلامي التقليدي، فإنه يخوض معركته الأكبر في الفضاء الرقمي. شعارات قصيرة تنتشر كالشرر، فيديوهات مشحونة بالعاطفة تجذب ملايين المشاهدات، وخطاب “نحن ضدهم” يتحول إلى حرب افتراضية يومية. في ألمانيا مثلًا، أظهرت دراسة لمؤسسة Hans-Bredow-Institut عام 2022 أن حزب البديل (AfD) يحقق ضعف التفاعل الرقمي مقارنة بمنافسيه، ما يؤكد أن الجبهة غير المرئية على الشبكات الاجتماعية قد تكون الأكثر حسماً في تحديد اتجاهات الرأي العام.
إلا أن جوهر المسألة ليس تقنيًا بقدر ما هو نفسي. فالجمهور الذي يلتصق باليمين لا يبحث عن نظريات، بل عن يقين بسيط: عدو واضح يلقي عليه اللوم، هوية قومية نقية بلا شوائب، وحلول سريعة تبدو كالعلاج السحري: إغلاق الحدود، طرد المهاجرين، تقليص الاتحاد الأوروبي. إنه بحث عن استقرار روحي في زمن يعج بالارتباك، وملاذ نفسي يحمي من مستقبل غامض. هنا يصبح الخطاب السياسي نوعًا من العلاج الجماعي، يملأ فراغًا نفسيًا أكثر مما يقدم حلولًا واقعية.
ومع ذلك، ورغم صعوده المتزايد، فإن اليمين يظل محاطًا بثلاثة جدران عالية: جدار النخب التي ترفض خطابه وتقاوم تغلغله في الجامعات والإعلام الثقافي، جدار المصالح الاقتصادية التي قد تتصدع إذا اصطدمت بالشعبوية، وجدار التناقضات الداخلية بين رفض العولمة والاعتماد عليها في الوقت ذاته. هذه التناقضات قد تمنحه قوة على المدى القصير، لكنها تهدد بتهشيمه على المدى الطويل، خاصة حين تبدأ الجماهير باكتشاف الفجوة بين الوعود والواقع.
اليمين المتطرف إذن يشبه كائنًا ذا وجهين: في العلن يخاطب العمال والعاطلين كأب حنون يحمي أبناءه من رياح العولمة الباردة، وفي الخفاء يفاوض رجال الأعمال بلغة الأرقام والصفقات. هذه الازدواجية هي سر قوته اليوم، لكنها أيضًا بذرة ضعفه غدًا، فالجمهور الذي يساق بالعاطفة قد يكتشف يومًا أن صوته لم يكن سوى أداة، وأن المصالح الكبرى كانت هي الفائز الحقيقي في اللعبة.
وهو ما يقودنا الي ان نضع سيناريوهات محتملة للوضع الحالي في معظم اوربا
السيناريو الأول: تعاظم النفوذ السياسي
إذا استمرت الفئات محدودة التعليم والدخل في الشعور بالتهميش، فقد يتمكن اليمين من توسيع قاعدته الانتخابية، مدعومًا بقدراته على التحكم بوسائل التواصل الاجتماعي ونشر الشعبوية الرقمية وبالتأكيد سيوسع برامجه في ظل انخفاض معدلات الهجرة الحالية ليتجه إلى إيجاد أعداء جدد ليستمر وجوده .
السيناريو الثاني: احتواء مؤسسات الدولة
قد يتعرض اليمين إلى عملية “تدجين سياسي”، حيث يشارك في الحكم ضمن تحالفات أكبر،وتنجح الدولة العميقة في احتوائه مما يضطره إلى التخفيف من حدة خطابه لكنه في الوقت نفسه ينجح في دفع السياسات نحو المزيد من التشدد تجاه الهجرة والأمن.
السيناريو الثالث: الارتداد والتراجع
إذا نجحت القوى الديمقراطية والليبرالية في كشف التناقضات بين خطاب اليمين ومصالح جمهوره الفعلي خصوصًا محدودي التعليم والدخل الذين لا يستفيدون من السياسات النيوليبرالية، فقد يشهد اليمين تراجعًا تدريجيًا وفقدانًا لجزء من شرعيته.

 
 
 


