المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / كيف نصنع أعداءنا بأيدينا؟

كيف نصنع أعداءنا بأيدينا؟

كيف نصنع أعداءنا بأيدينا؟

عبدالرحمن عبدالقوي

عاشت الهند سنواتٍ طويلة تحت الاحتلال البريطاني، ومع ذلك لم تتحول هذه التجربة القاسية إلى عقدة تاريخية تُورَّث للأجيال، ولا إلى خطاب كراهية دائم، بل بعد الاستقلال، وبقيادة شخصيات مثل المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو، اختار الهنود مسارًا مختلفًا، ألا وهو الاستثمار في الإنسان قبل أي شيء آخر.

ومع مرور عشرات السنين، رأينا هنودًا يصلون إلى أعلى المناصب الحكومية والخاصة في العالم؛ أمثال ريشي سوناك، رئيس وزراء بريطانيا، وسوندار بيتشاي المدير التنفيذي لغوغل، وساتيا ناديلا في مايكروسوفت، وغيرهم كثير .. بالعلم والكفاءة والعمل الجاد، أصبحوا جزءًا من صناعة القرار في العالم الذي نعيشه اليوم.

لم يقف الهندي عند لحظة الاحتلال ليكرر: هذا من دمرني واستغلني، بل وقف على قدميه، واشتغل على التعليم والوعي وأدوات العصر، ودخل المنافسة بوعي، وفي المقابل، نرى اليوم من يعيش في قلب أوروبا، في لندن أو باريس أو برلين أو أمستردام، يذكّر باستمرار بما فعله “الغرب” بنا، وكأن الماضي هو كل ما نملك.

الأخطر أن هذه الأصوات لم تبقَ داخل دوائرنا فقط، بل التقطها المتعصبون في أوروبا والغرب، واستخدموها كذريعة. فأحزاب اليمين المتطرف، مثل الجبهة الوطنية في فرنسا (التي قادتها لاحقًا مارين لوبان)، وحزب البديل من أجل ألمانيا (AfD)، وخطابات شخصيات مثل خيرت فيلدرز في هولندا، كلها استثمرت في هذه اللغة لتغذية الخوف، وتبرير سياسات الإقصاء، وبناء سردية “نحن وهم”.

وهكذا دخلنا في حلقة مفرغة: خطاب كراهية يولّد خطاب كراهية مضادًا، وتطرّف يغذّي تطرّفًا آخر. هذه الحلقة لم توسّع الفجوة فقط بين المسلم والعربي والمجتمعات الغربية، بل جعلت الإنسان العادي هو الضحية الأولى؛ في العمل، وفي الشارع، وفي تفاصيل الحياة اليومية.

والعجيب في جوهر الأمر أن ديننا دين محبة وسلام ورحمة، وليس دين ثأر ولا اجترار للماضي. وإن تحويل التاريخ إلى معركة مفتوحة لا تنتهي هو منطق يعيدنا إلى الوراء، لا إلى الأمام.

ومن تجربة شخصية، عشت مع أوروبيين قرابة عشر سنوات، ولم أرَ منهم إلا الخير في العموم: إتقانًا في العمل، وصدقًا في القول، واحترامًا واضحًا للخصوصية والمساحة الشخصية. هم بشر عاديون، لديهم أطفال، يذهبون إلى أعمالهم، ويعودون إلى بيوتهم، ويعيشون تفاصيلهم اليومية. وعندما تناقش أحدهم بالحجة والمنطق، ستجد في كثير من الأحيان استعدادًا حقيقيًا للفهم، وربما لتغيير الموقف.

نعم، لا توجد مجتمعات مثالية، وهناك أخطاء وقصور في المجتمعات الأوروبية بلا شك. لكن السؤال الأصدق: أي مجتمع عربي مثالي نملكه اليوم لنقيس عليه، ونوزّع من خلاله أحكام الخير والشر؟

الحقيقة المؤلمة أن من يقود العالم نحو التآكل والزوال ليس شعبًا بعينه، ولا دينًا بعينه، بل المتعصبون من كلا الطرفين؛ أولئك الذين لا يرون الإنسان، بل الهوية فقط، ولا يعيشون إلا على تأجيج الخوف، لأن وجودهم السياسي والفكري قائم عليه.

البديل الوحيد عن هذا المسار المدمّر هو الاقتراب من الناس، والحوار، وتبادل الأفكار، والأخذ والعطاء رغم الاختلاف. فالجسور لا تُبنى بالخطب الغاضبة، بل بالعقل، وبالإنسانية المشتركة.

رسالتي أن نترك الأحقاد، ونتحرر من أسر الماضي، ونبدأ بإصلاح الصورة التي شُوِّهت، سواء بفعل المتشددين عندنا أو المتعصبين هناك. لنسعَ إلى الخير، وإلى الصلاح، وإلى الحقيقة، ولا ننساق خلف الأصوات التي لا تعرف إلا طريق الانقسام والكراهية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *