قمة الناتو في لاهاي: حين تتقاطع العواصف على مائدة الحلفاء

في مدينة لاهاي، التي تُعرف بأنها عاصمة العدالة الدولية، تُعقد قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في لحظة سياسية حرجة، تُعيد طرح الأسئلة الكبرى حول معنى الحلف ووظيفته. قمة الناتو في لاهاي ليست مجرد اجتماع سنوي، بل مشهد صاخب تتقاطع فيه العواصف الجيوسياسية، من شرق أوروبا إلى الشرق الأوسط، وتتصادم فيه الرؤى حول مستقبل الدفاع الجماعي.
قمة الناتو في لاهاي تأتي هذه المرة في ظل تصاعد القلق من التوترات مع روسيا، واستمرار الحرب في أوكرانيا، وتزايد الشكوك في استمرارية الالتزام الأمريكي بالحلف، خاصة في ظل وجود دونالد ترامب على رأس البيت الأبيض. القمة ليست فقط محطة للنقاش، بل اختبار حقيقي لوحدة الحلف وقدرته على التكيف.
منذ إعلان تولّي مارك روته، رئيس الوزراء الهولندي السابق، منصب الأمين العام للناتو خلفًا لستولتنبرغ، تغيرت نبرة الخطاب داخل الحلف. روته يؤمن بأن “الاستقلال الدفاعي التدريجي” لأوروبا ضرورة وليست ترفًا، معتبرًا أن الاعتماد التام على الولايات المتحدة بات مخاطرة استراتيجية. هذا التوجه، وإن كان غير معلن بالكامل، يحظى بتأييد هادئ في باريس وبرلين، وسط إدراك أوروبي متزايد بأن التبعية لواشنطن لم تعد مضمونة.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الحاضر بجسده والغائب سياسيًا بإرادته، لا يُخفي امتعاضه من الناتو. في أكثر من مناسبة صرّح بأن الحلف “يكلّف أمريكا أكثر مما يُفيدها”، ملمحًا إلى إمكانية انسحاب بلاده ما لم تتحمل الدول الأوروبية مزيدًا من الأعباء. قمة الناتو في لاهاي تدور في فلك هذا التهديد المبطن، وتجعل أوروبا في موقف الدفاع السياسي، لا العسكري فقط.
السؤال الأكثر رعبًا في أروقة الناتو الآن: ماذا لو انسحبت الولايات المتحدة؟
إذا قررت واشنطن الانفصال عن الحلف أو خفض التزاماتها بشكل جذري، فإن أوروبا ستواجه فراغًا دفاعيًا هائلًا. يتطلب بناء مظلة أمنية أوروبية بديلة استثمارات تتجاوز تريليونات الدولارات، وسنوات طويلة من التنسيق، في ظل تهديدات متعددة من روسيا، والصين، وإيران، وحتى الجماعات المسلحة العابرة للحدود.
لكن هل التهديد الروسي يبرر كل هذا؟
روسيا، رغم امتلاكها قوة نووية تقليدية، لم تستطع حسم الحرب في أوكرانيا بعد ثلاث سنوات من المعارك. جيشها يواجه استنزافًا حقيقيًا، واقتصادها متضرر بفعل العقوبات، وتحالفاتها محدودة. من هنا، يبرز التباين الأوروبي: هل يُبرَّر الإنفاق الدفاعي الهائل بخطر لم يثبت بعد؟ أم أن الأمر يتعلق بإرادة أمريكية لفرض معادلة أمن مقابل المال؟
قمة الناتو في لاهاي طرحت رسميًا هدفًا جديدًا: رفع الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج القومي لكل دولة عضو. إسبانيا رفضت علنًا، ووصفت ذلك بأنه “ابتزاز غير واقعي”. فرنسا ترى أن الإنفاق يجب أن يكون داخل إطار أوروبي مستقل، وبلجيكا تتحفظ بحكم ظروفها المالية. أما إيطاليا، فتتأرجح بين خطاب يميني داخلي وضغوط اقتصادية لا تسمح بالمغامرة.
في قلب هذا الجدل، تظهر مسألة التمويل الحقيقي للحلف. رغم أن الولايات المتحدة تساهم بنسبة 22.1% فقط من الميزانية المشتركة الرسمية لحلف الناتو، فإنها تتحمل فعليًا أكثر من 70% من الإنفاق الدفاعي الإجمالي، من خلال قواعدها العسكرية في أوروبا، منظوماتها الدفاعية، وتمويلها لعمليات الناتو خارج الإطار الإداري. تليها ألمانيا بنسبة 16.3%، ثم بريطانيا، ففرنسا. الدول الصغيرة – خصوصًا في البلطيق والبلقان – تقدم مساهمات رمزية فقط.
الميزانية الإدارية والعسكرية للناتو تبلغ قرابة 3.8 مليار يورو سنويًا، تُستخدم لتمويل البنية التحتية، الأمان السيبراني، وعمليات التدريب. أما دعم أوكرانيا وتسليحها فيتم خارج هذه الموازنة، عبر مساهمات ثنائية تتفاوت حسب القدرة السياسية والاقتصادية، وتخضع أحيانًا لأجندات داخلية.
أما على مستوى التنسيق الدفاعي، فإن المادة الخامسة من ميثاق الناتو، والتي تنص على أن “الاعتداء على أحد الأعضاء يُعد اعتداءً على الجميع”، لا تُفَعَّل تلقائيًا. تحتاج إلى إجماع سياسي، وغالبًا ما تسبقها مشاورات سرية ومداولات حساسة. الأمر الذي يجعل من آلية الاستجابة في حالات الطوارئ أبطأ مما يعتقد البعض، ويمنح الدول الكبرى، خصوصًا واشنطن، حق الفيتو الفعلي.
وبينما يدور الجدل حول من يدفع، ومن يقرر، يدخل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى القاعة محمّلًا بمطالب الدعم والسلاح. خطابه، المكرر في أكثر من قمة، يعتمد على عبارة: “نحن نقاتل عنكم”. لكن أوروبا، التي تواجه صعود اليمين في عدد من دولها، باتت أكثر برودًا. يرى البعض في زيلينسكي قائدًا مثقلًا بالطلبات، يستخدم خطابًا أخلاقيًا ضاغطًا لا تواكبه خطة استراتيجية واقعية.
الولايات المتحدة نفسها، بقيادة ترامب، تُعارض انضمام أوكرانيا للناتو حاليًا. تخشى أن يؤدي ذلك إلى صدام مباشر مع روسيا. لذا، يبدو ملف عضوية أوكرانيا مؤجلًا بطلب أمريكي، في مقابل استمرار الدعم المالي والعسكري بشروط مشددة.
وفي الخلفية، يتسلل ملف الشرق الأوسط، تحديدًا الصراع الإيراني-الإسرائيلي، إلى النقاشات الجانبية. فالهجمات المتبادلة في البحر الأحمر، وتصاعد التوتر حول البرنامج النووي الإيراني، ومحاولات إسرائيل تعبئة الحلفاء ضد طهران، تجعل من هذا الملف عنصرًا دائم الحضور. رغم أنه لا يُدرج رسميًا على جدول الأعمال، إلا أن تداعياته الجيوسياسية والأمنية تجعله موضوعًا ضمنيًا حاضرًا في كل تقييم استراتيجي.
قمة الناتو في لاهاي لم تكن فقط عن الإنفاق والدفاع، بل عن الهوية. هل يبقى الناتو تحالفًا عسكريًا يجمع الديمقراطيات الغربية؟ أم يتحول إلى شركة أمنية كبرى، تبيع الحماية بمقابل مادي، وتدير الأمن الدولي كصفقة تجارية؟
الإجابات ليست جاهزة، لكن الأسئلة باتت علنية.
ختامًا، لاهاي لم تكن مجرد قمة، بل كانت لحظة مواجهة مع الذات. لحظة قد تحدد مستقبل الناتو كفكرة، وكآلية، وككيان. وهل نحن على أعتاب توسع جديد؟ أم بداية انكماش استراتيجي طويل؟ الجواب، كما يبدو، لن تحدده واشنطن وحدها، بل الأوروبيون إن اختاروا أن يتكلموا بصوت مستقل… لا بصدى الحماية الأمريكية.