المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية

الرئيسية / الشعبوية اليسارية الناعمة

الشعبوية اليسارية الناعمة

الشعبوية اليسارية الناعمة

تحولات اليسار الأوروبي بين الخطاب الإنساني والسياسات الصارمة تجاه اللاجئين

 ابوبكر باذيب

شهدت أوروبا تحولات سياسية عميقة في مواقف أحزابها، خاصة تلك المحسوبة على اليسار والوسط، تجاه ملف الهجرة واللجوء. فالأحزاب التي كانت تتبنى خطابًا إنسانيًا منفتحًا وتدافع عن قيم التضامن وحقوق الإنسان، بدأت تدريجيًا تتبنى “مؤخرآ” لهجة أكثر حذرًا بل وأحيانًا متشددة في بعض الملفات، في ما يبدو أنه تكيّف مع صعود التيارات اليمينية الشعبوية في المشهد الأوروبي.

من الشعارات الإنسانية إلى الحسابات الانتخابية

مثّلت قضايا اللجوء والهجرة رمزًا لتفوق اليسار، ويسار الوسط في الدفاع عن “الإنسان أولًا”، غير أن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها القارة العجوز، من أزمة اللاجئين عام 2015 وتداعياتها على مدى عشرة سنوات، وواقع استنزاف الحرب الأوكرانية والتضخم الاقتصادي، فرضت على تلك الأحزاب إعادة حساباتها. ففي بلدان مثل السويد والنرويج وهولندا وبريطانيا، كمثال، تبنت أحزاب وسطية ويسارية توجهات سياسية وبرامج انتخابية شكلت اطارا متبايناً عن ايدلوجياتها السابقة، وباتت تمثل سياسات أكثر صرامة، ليس بالضرورة بدافع الأيديولوجيا، بل خوفًا من فقدان ثقة الطبقة الوسطى والناخبين القلقين من آثار الهجرة على سوق العمل والخدمات العامة.

تأثير الخطاب الشعبوي

لا يمكن تجاهل ايضا أن صعود اليمين الشعبوي، بخطابه القومي المعادي للمهاجرين، قد جرّ معه حتى خصومه الأيديولوجيين إلى ميدانه. أحزاب يسارية كثيرة باتت تُوازن بين الحفاظ على مبادئها من جهة، وعدم خسارة الناخبين الذين باتوا يتأثرون بخطابات “الأمن والهُوية” من جهة أخرى. لذا نرى ما يمكن تسميته بـ”الشعبوية اليسارية الناعمة”، أي محاولة مخاطبة مخاوف الناس بلغة اليمين ولكن بأسلوب أقل حدة. وقد ظهر هذا التوجه في هولندا مثلًا، حيث بدأت بعض الأحزاب الوسطية تتحدث عن “الهجرة المنظمة” و”ضرورة حماية الرفاه الوطني”، وهي مصطلحات كانت حتى وقت قريب حكرًا على اليمين.

تجربة D66: بين الرفاه الاقتصادي والتشدد المنظم

يُعدّ فوز حزب D66 في هولندا في الانتخابات البرلمانية الاخيرة، اكتوبر 2025، مثالًا بارزًا على التحولات التي تشهدها أحزاب يسار الوسط الأوروبية في مقاربة ملفات الاقتصاد واللاجئين. فالحزب الذي يرفع شعارات التوازن الاقتصادي والسعي إلى مجتمع رفاه مستدام، وجد نفسه أمام واقع اقتصادي متقلب وارتفاع حاد في تكاليف المعيشة والضرائب. لذلك، ركّز برنامجه على سياسات مالية أكثر انضباطًا، تهدف إلى دعم الفئات المتوسطة والحفاظ على استقرار النظام الاقتصادي، لكن دون إغفال ضغط الإنفاق العام الناتج عن زيادة أعداد اللاجئين والمهاجرين. وهنا برزت المفارقة: حزب إنساني التوجه، لكنه يُقرّ بسياسات اقتصادية واقعية تقارب منطق اليمين في بعض جوانبها، ويبدو انها ستسهم في مستويات اقتصادية مرتفعة بحسب قراءات وتوقعات الشارع الهولندي.

إدارة ملف اللاجئين: صرامة مغلفة بالتنظيم

في الجانب المتعلق بالهجرة واللجوء، تبنّى D66 نهجًا يُوصف بأنه “صارم في الشكل، إنساني في الجوهر”. فبدلًا من الخطاب الشعبوي أو السياسات العدمية، سيعمل الحزب على تحسين تنظيم مسارات اللجوء وتوزيع الأعباء بين البلديات، بهدف تخفيف الضغط على المدن الكبرى وتحقيق عدالة في توزيع المسؤوليات. غير أن هذه الإجراءات – رغم تنظيمها الظاهري – حملت في مضمونها تشددًا إداريًا واضحًا، الا انها ستعمل على تقليص فرص بعض الفئات في الحصول على اللجوء السريع، ورفع شروط الاندماج والمشاركة الاقتصادية. هكذا، يجد الحزب نفسه في موقع معقد: يحاول الحفاظ على صورته التقدمية والإنسانية، وفي الوقت نفسه يبعث برسالة طمأنة للناخب الهولندي القلق من آثار الهجرة على سوق العمل ومستوى المعيشة

البعد الاقتصادي: المبرر الأكثر قبولًا

في ظل أزمات الطاقة وارتفاع تكاليف المعيشة، بات الخطاب الاقتصادي هو الغطاء الجديد للتشدد السياسي تجاه اللاجئين. فالأحزاب اليسارية اليوم تبرر مواقفها الصارمة باعتبارها ضرورة لضمان توازن الموارد وعدم إنهاك أنظمة الرعاية الاجتماعية. هذا التحول يجعل من الصعب الفصل بين القيم الأخلاقية والمصالح الاقتصادية، خاصة مع تزايد الضغط الشعبي في العديد من الدول الأوروبية التي تشهد تغيرات ديموغرافية ملموسة.

نهاية المسار أم إعادة تموضع؟

قد يبدو للبعض أن المسار الإنساني في السياسات الأوروبية تجاه اللاجئين قد انتهى، لكن الواقع أكثر تعقيدًا. فاليسار لم يتخلَّ تمامًا عن مبادئه، بل يحاول إعادة صياغتها في إطار جديد يتلاءم مع المزاج الشعبي العام. إنه ليس انحرافًا كاملاً نحو اليمين، بقدر ما هو إعادة تموضع براغماتي يوازن بين الأخلاق والسياسة، بين المبادئ والمصالح.

في المحصلة يبدو أن مستقبل سياسات اللجوء والهجرة في أوروبا سيظل رهينًا بالتوازن الدقيق بين الضمير السياسي والضرورات الانتخابية. فالأحزاب اليسارية والوسطية تدرك أن خسارة هذا الملف قد تعني خسارة صناديق الاقتراع، لكنها أيضًا تخاطر بفقدان هويتها الفكرية. السؤال إذن ليس إن كان المسار الإنساني قد انتهى، بل كيف يمكن إنعاشه من داخل معادلة أوروبية جديدة تتغير ملامحها كل يوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *